النظر بعين البصيرة

يُروى أنّ أحد المثقفين من أساتذة الجامعات الأكاديمية قد تحاور مع عالم من علماء الدين حول مسألة رؤية الله (عزّ وجلّ).

  فسأل الأستاذ الجامعي عالم الدين: نجد في موارد عديدة من القرآن الكريم، ومنها الآية 143 من سورة الأعراف، إذ دعا موسى(عليه السلام) ربه قائلاً: (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)، وخاطبه الله تعالى قائلاً: (قَالَ لَنْ تَرَانِي).

ونحن نعلم أنّ الذات المقدّسة لله تعالى، ليست بجسم، ولا مكان لها، وغير قابلة للرؤية، فلماذا سأل النبي موسى(عليه السلام) هذا السؤال؟ مع أنّه كان من أنبياء أولي العزم فضلا عن قبح صدور هذا السؤال ولو من إنسان عادي.

فقال عالم الدين: يحتمل أن يكون طلب موسى(عليه السلام)، مشاهدة الله تعالى بعين القلب، لا المشاهدة بالعين، وكثيراً ما يُستعمل لفظ الرؤية في هذا السياق، كقولنا: إنّي أرى في نفسي القدرة على فعل ذلك العمل مع أنّ القدرة ليست قابلة للرؤية، فالمراد أنّ هذه الحالة واضحة في نفسي، وكان الغرض من طلبه هذا الحضور والشهود الكامل الفكري والروحي، فيعني أن موسى(عليه السلام) سأل وقال: إلهي اجعل قلبي مملوءاً باليقين، حتى كأنّي أراك.

الأستاذ الجامعي: هذا التفسير خلاف ظاهر الآية؛ لأنّ الظاهر من لفظ (أرني) هو الرؤية بالعين، كما أنّ جواب الله سبحانه وتعالى كان: (لَنْ تَرَانِي)، يُفهم منه أنّ طلب موسى(عليه السلام) كان المشاهدة بالعين، فلو كان بالمشاهدة الباطنية الروحية والفكرية، لما كان جواب الله تعالى لطلب موسى(عليه السلام) بالنفي؛ لأنّ الله (عزّ وجلّ) يهدي هذا النوع من الشهود لأوليائه المرسلين من دون سؤال.

عالم الدين: لو فرضنا أنّ طلب موسى(عليه السلام)
هو رؤية الذات الإلهية المقدّسة، حسب ما يقتضيه ظاهر العبارة، لتبيّن أنّ طلب موسى(عليه السلام) كان عن لسان قومه، بعد أن تعرّض للضغوط من قبلهم.

الجامعي: هلَّا وضحت؟

عالم الدين: وتوضيحه: أنّه بعد هلاك فرعون ومَن اتّبعه ونجاة بني إسرائيل، ظهرت

مواقف أُخرى بين موسى(عليه السلام) وبني إسرائيل، منها: أنّ جماعة من بني إسرائيل

  أصرّوا على موسى(عليه السلام) برؤية الله سبحانه، وإلّا فلن يؤمنوا به، وأخيراً اضطرّ موسى أن يختار سبعين نفراً من بني إسرائيل، وأخذهم إلى الوادي المقدّس ـ (الطور) جبل بيت المقدس ـ وهناك طلب من الحضرة الربوبية هذا الطلب.

فأوحى الله إلى موسى(عليه السلام): (لَنْ تَرَانِي)
وبهذا الجواب اتّضح لبني إسرائيل كلّ شيء، لذلك يكون طلب موسى(عليه السلام) عن لسان قومه نتيجة لإصرارهم وضغطهم عليه، وحينما أرسل الله الزلزلة والصاعقة إلى المرافقين لموسى والبالغ عددهم سبعين نفراً وهلاكهم، قال موسى(عليه السلام) مخاطباً ربه: (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ)[1].

فأجابه الله تعالى: (قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)[2].

  فالتجلّي الإلهي على الجبل؛ لأجل رؤية الآثار الإلهية، كأمواج الصاعقة الشديدة، التي أدت إلى تلاشي الجبل، ممّا أدى إلى دهشة موسى (عليه السلام)
وأصحابه، فالله سبحانه بهذه القدرة، أراد أن يُفهم أصحاب موسى بعجزهم عن تحمل إحدى آثاره، فكيف النظر إلى الذات الإلهية المقدّسة؟ فأنتم أعجز من رؤيته بالعين التي هي جسم مادي، في حين أنّ الله مجردّ مطلق.

وبهذا التجلّي الإلهي، رأى أصحاب
موسى(عليه السلام)الله تعالى بعين القلب، وأدركوا عدم قابليتهم على رؤيته بالعين المادية، وكانت توبة موسى (عليه السلام)، كطلبه الرؤية نيابة عن قومه، ولأجل رفع الشبهة، كان من اللازم على موسى(عليه السلام)
أن يُظهر إيمانه ليعلم أصحابه أنّه لم يطلب طلباً مخالفاً لإيمانه مطلقاً، بل عرض هذا الطلب كممثل عنهم لرؤية الله سبحانه، وإلّا فلن يؤمنوا به.

الأستاذ الجامعي: أشكرك على توضيحاتك المستفيضة، فبجوابك هذا قد اقتنعت بالغاية التي كانت سبباً في طلب موسى(عليه السلام) رؤية الله سبحانه وتعالى[3].

مجلة اليقين، العدد (69)، الصفحة (8 - 9).

 


[1] الأعراف: آية 155.

[2] الأعراف: آية 143.

[3] مناظرات في العقائد والأحكام، الشيخ عبد الله الحسن: ج1، ص91.