كتب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كتاباً إلى أساقفة نجران يدعوهم إلى الإسلام، جاء فيه: (أمّا بعد، فإنّي أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، أدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتُم فقد أذنتم بحربٍ، والسلام)[1].
فلمّا قرأ الأسقف الكتاب ذُعِر ذُعراً شديداً، فبعث إلى رجلٍ من أهل نجران يُقال له: شَرحبيل بن وداعة ـ كان ذا لب ورأي بنجران ـ فدفع إليه كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقرأه، فقال له الأسقف: ما رأيك؟
فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرّية إسماعيل من النبوّة، فما يُؤمِنُك أن يكون هذا الرجل، وليس لي في النبوّة رأي، لو كان أمر من أُمور الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك.
فبعث الأسقف إلى واحدٍ بعد واحد من أهل نجران فكلّمهم، فأجابوا مثلما أجاب شرحبيل، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل وعبد الله ابنه وحبّار بن قنص، فيأتوهم بخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فانطلق الوفد حتّى أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فسألهم وسألوه، فلم تزل به وبهم المسألة حتّى قالوا: ما تقول في عيسى بن مريم؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّهُ عَبدُ الله»، وقال تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[2]، فأنكروا عليه ذلك وأبوا أن يجيبوه لما طلب منهم عتوا وعنادا، فنزلت آية المباهلة الكريمة حاملة إجابة وافية قاطعة لأعذار مُؤلّهي المسيح ومُتبنّيه، وهي بنفس الوقت دعوة صارخة لمباهلة الكاذبين المصرّين على كذبهم فيما يخصّ عيسى(عليه السلام)، فدعاهم (صلى الله عليه وآله) إلى اجتماعٍ حاشد، يجمع أعزّ المقربين من الجانبين؛ ليبتهل الجميع إلى الله تعالى في دعاء قاطعٍ أن ينزل لعنته على الكاذبين[3].
مقام أهل البيت في أية المباهلة:
قوله تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)[4].
حيث أوجب عز وجل أن يجتمع هؤلاء ولذا قال لهم النبي (صلى الله عليه وآله): (إذا دعوتُ فأمِّنوا)[5].
الترتيب الذي خرجت به العترة الطاهرة (عليهم السلام) كما تذكر الروايـــــات: لاحظوا تعبير النص بدقـــة النبي (صلى الله عليه وآله) في الأمام محتضناً الحـسين، آخذاً بيد الحســن، وخلفه فاطمة الزهراء، وخلفها علي بن أبي طالب (عليهم السلام)[6].
وكما ينقل الفخر الرازي في تفسيره: (... وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج وعليه مرط من شعر أسود، وكان قد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي (رضي الله عنه) خلفها، وهو يقول، إذا دعوت فأمنوا، فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى، إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا...)[7].
وهذا الترتيب الذي ورد التصريح به ـ في روايات الفريقين ـ لا بد أن يكون له دلالات وأسرار وإن خفيت علينا فإن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) هم خيرة الخلق وأشرف الموجودات وهم الوجود الذي يحكي حكمة الله تعالى في تصرفاتهم وحركاتهم وسكناتهم، فمن هذا يمكن لنا أن نستكشف مبدأ عاما يتعلق بتصرفات هذا البيت الطاهر ينطوي على معاني عظيمة ليس من السهل أن نستوعبها تماما ولكنها لا بد أن تصب في معنى أنهم لا ينطقون عن الهوى بل يحكون حكمة الخالق في خلقه.
قول الزمخشري في آية المباهلة:
بعد أن نقل قضية المباهلة ذكر سبب تقديم الأبناء والنساء في آية المباهلة: (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ...) فقال: (وقدَّمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها، وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء، وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي (صلى الله عليه وآله)[8].
[1] بحار الأنوار للمجلسي: ج21، ص285.
[2] سورة آل عمران: آية 59.
[3] بحار الأنوار للمجلسي: ج21، ص285 بتصرف.
[4] سورة آل عمران: آية61.
[5] مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج3، ص143.
[6] الحق المبين في معرفة المعصومين (عليهم السلام): ص292.
[7] تفسير الرازي للفخر الرازي: ج8، ص85.
[8] الكشاف للزمخشري ج1، ص370.