لم تذبل زهور الربيع على قبر منقذ الإنسانية، حتى استعجل الشيطان قلوب المنافقين، فجعل منهم فئات باغية استرخصت ذلك الدم الذي يجري في عروق المسلمين، بعد أن خلطه بأوحال الشبهات، ومائة بسراب الدنيا، فأورثهم سوء المصير، وأسكنهم سوء الدار.
ذلك الدم النفيس الذي لم يجعل له صانع الإنسان، ومبلغ الشريعة لمَن خلقه الله في أحسن تقويم؛ ثمناً إلّا الجهاد في سبيل الله، ولا مقابلاً إلّا الفوز بالجنة، مزجه أتباع الشيطان بأدنى مآرب الدنيا، فئةً بعد فئة، فقد جُعلت على أبصارهم الغشاوة فكانت أعمالهم (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً)[1].
بعد ما تغاضى أمير المؤمنين(عليه السلام) عن الغدر والمكر الذي كلّف الإسلام الدماء والأرواح، وضاعت به دنيا قوم وخسروا آخرتهم، طافت نيّات القلوب الراجفة غيوماً مظلمة، لتظهر سلوكاً غادراً مرّة أخرى؛ لتغطي شمس الإسلام وما أشرقت به على الخلق من القيم والمبادئ والمعاني الإنسانية العليا.
فتنة الجمل:
بدأتْ أحداث الفتنة بحلقة مقتل عثمان والتذمّر من فساد حكمه وانحيازه لأقاربه وتفعيل المحسوبيات غير الصحيحة...إلخ، ثمّ كانت الحلقة الثانية، وهي الثأر من القتلة، فقد كان مادة تجارة الخسران وسوء المنقلب للقوم آنذاك، كان ربحها السلطة والإمرة على المسلمين بالجور والاستبداد، وأعلى صور الدكتاتورية، من على منبر أضاع الناس تحت أعواده أعداد الفرائض، حتى آل الأمر إلى الحلقة الثالثة، وهي تحويل المطالبة بالثأر إلى فتنة تشرب من دماء آلاف المسلمين، إنّه الصراع على السلطة، بظل قميص عثمان حتى صار ذلك مثلاً.
تلك فتنة الجمل التي خاطب فيها أمير المؤمنين(عليه السلام) الناكثين خطاب العارف الحكيم: «كُنْتُمْ جُنْدَ اَلْمَرْأَةِ وَأَتْبَاعَ اَلْبَهِيمَةِ رَغَا فَأَجَبْتُمْ وَ عُقِرَ فَهَرَبْتُمْ أَخْلاَقُكُمْ دِقَاقٌ وَ عَهْدُكُمْ شِقَاقٌ وَ دِينُكُمْ نِفَاقٌ وَ مَاؤُكُمْ زُعَاقٌ وَ اَلْمُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مُرْتَهَنٌ بِذَنْبِهِ وَ اَلشَّاخِصُ عَنْكُمْ مُتَدَارَكٌ بِرَحْمَةٍ مِنْ رَبِّهِ»[2] ذلك عندما ملؤوا قلبه قيحاً، وشحنوا صدره غيظاً، وجرعوه نغب التهمام أنفاساً، وأفسدوا عليه رأيه بالعصيان.
مجلة ولاء الشباب العدد (69)