قال الله تعالى في الكتاب المجيد:
(قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[1].
آيةٌ مباركةٌ تصف الصابرين أنَّ لهم الأجرَ الكبيرَ يومَ القيامةِ من حيثِ هم صابرون فما هو هذا الصبرُ الذي يصلُ بصاحبه الى هذه الدرجات العليا؟
الذي يظهر من كلام الأئمة (عليهم السلام) أنّ المرادَ منه هو الصبر الاختياري أولاً والمتعلق بالدين والإخلاص ثانياً، فقد جاء في مشكاة الأنوار عن الصادق (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يأتى على الناس زمان لا ينالٌ فيه الملك إلا بالقتل والتجبر، ولا الغنى إلا بالغصب والبخل ولا المحبة إلا باستخراج الدين واتباع الهوى، فمن أدرك ذلك الزمان فصَبّر على البُغْضَة وهو يقدر على المحبة، وصَبَر على الفقر وهو يقدر على الغنى وصَبَر على الذُلّ وهو يقدر على العز آتاه الله ثواب خمسين صدّيقاً ممن صدّقَ به» .
ويعلّمنا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنواع الصبر فيقول (عليه السلام): «الصبرُ ثلاثةٌ، صبرٌ على الطاعة، وصبرُ على المعصية، وصبرٌ على المصيبة»[2].
والصبرُ بهذا المعنى يحكي معنى الإخلاص والولاء الذي يستحقُّ الأجرَ بدون حساب.
فالصبرُ على المعصية معناه: أنْ يتركَ كلَّ المكاسب النفسية والمادّية الحاصلة من تلك المعصيّة ويضعُ صورةَ النجاح والفوز بتجاوزها ويرسم تركه لتلك المكاسب صورةً في ذهنه محفوفة برضا الباري عز وجل.
والصبر في الطاعات أنْ يضحّي بالراحة ويعالج المعوّقاتِ والظروف القاسية؛ طلباً لأداء الواجبات أو المستحبات فتعيش النفس حالة القرْبِ والعبودية لله تعالى عز وجل بنحو الإرادة والاختيار.
أما الصبْرُ عند المصائب فهو مرتبةٌ من مراتب الإخلاص والرجوع الى الله المنعم قال الإمام الرضا (عليه السلام): «... من بُلي من شيعتنا ببلاء فصبر كتب الله له أجر ألف شهيد»[3].
فالصائم مثلاً إذا ناله العطشُ، وألحَّ عليه الجوع، واستدرجه الضعف، منّى نفسه بانقضاء فترة الصوم والإمساك في هذه الساعة أو تلك ومثل الطالب في المدرسة، حيث يقاوم السهر والبرد والتبكير في الصباح والاستمرار في المطالعة والبحث وعبور الامتحان تِلْوَ الامتحان، كل هذه يقاومها ويركز نظره في نهاية العام الدراسي، حيث يأخذ وثيقة الامتحانات بتفوق، عند ذلك تتلاشى جميع الصعوبات التي مرت عليه، بل وتحلو لديه.
إذا فهمنا هذه المعاني النقيّة للصبر فينبغي أنْ يكونَ المؤمنون متّصفين به على هذا النحو والنسبة لله عز وجل ومن أولى به منهم؟ وقد قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَار)
وقد حكَتْ لنا الآثار طرَفاً رائعاً ممتعاً من قصص الصابرين على النوائب، مما يبعث على الاعجاب والاكبار، وحسن التأسي بأولئك الأفذاذ.
حكي أنّ كسرى سخط على بزرجمهر: فحبسه في بيت مظلم، وأمر أن يصفد بالحديد، فبقي أياماً على تلك الحال، فأرسل اليه من يسأله عن حاله، فاذا هو منشرح الصدر، مطمئن النفس، فقالوا له: أنت في هذه الحالة من الضيق ونراك ناعم البال. فقال: اصطنعت ستة أخلاط وعجنتها واستعملتها، فهي التي ابقتني على ما ترون. قالوا: صف لنا هذه لعلنا ننتفع بها عند البلوى، فقال: نعم.
أما الخلط الأول: فالثقة باللّه عز وجل.
وأما الثاني: فكل مقدرّ كائن.
وأما الثالث: فالصبر خير ما استعمله الممتَحن.
وأما الرابع: فاذا لم أصبر فماذا أصنع، ولا أعين على نفسي بالجزع.
وأما الخامس: فقد يكون أشدّ مما أنا فيه.
وأما السادس، فمن ساعة الى ساعة فرج.
فبلغ ما قاله كسرى فأطلقه وأعزّه[4].
المصدر: مجلة ولاء الشباب العدد (5)