إذن من هذا العرض يتبين وجود رأيين في المسألة رأي يقول إن حكومة السقيفة غصبت حقا شخصياً لبنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) واستولت عليه من دون حجة شرعية، ورأي آخر يقول إن هذا المال كان ملكاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بما هو خليفة للمسلمين ومن الطبيعي تحوله بعد وفاته (صلى الله عليه وآله) إلى الخليفة من بعده، وهو يتصرف فيه بما كان يتصرف فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الإنفاق على الفقراء...الخ.
وأنت خبير ـ بعد ما تقدم ـ أن الرأي الثاني مضافا إلى أنه لا يصمد أمام النقد ومعرفة أخبار ما حصل من طرق الفريقين، فإن فيه مخالفة للكتاب الكريم والسنة الشريفة، فهناك عدة أسباب لطرحه وترجيح الرأي الأول، فلنعرضها بشكل متسلسل، لتكون تلخيصا لما تقدم:
1- ان الفريقين رووا أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد وهب فدكاً لفاطمة (عليها السلام) بأمر الله تعالى بعد فتح خيبر ونزول قوله تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ). كما تقدم بيان روايات الفريقين، ولم يروِ أحد من المسلمين أن النبي (صلى الله عليه وآله) تراجع عن هبته لها ـ مع أن الهبة للرحم لازمة ـ أو هي (عليها السلام) قد وهبتها لأحد آخر أو للمسلمين.
2- تصريح الفريقين بأن الزهراء (عليها السلام) قد طالبت بفدك بعد رحيل أبيها (صلى الله عليه وآله) ومصادرة الخليفة لها وإخراج عاملها منها. وان كانت هذه الروايات من طرف كتب العامة قد أحيطت بغمامة من التدليس والتحريف لإخفاء الحقيقة إلا أن المتتبع المنصف لا يخفى عليه وجه الحق ونور الحقيقة.
3- تصريح الفريقين بمطالبة الخليفة بإحضار الشهود ليشهدوا لها على وفق دعواها ـ مع إن الأصل معها يقضي كفاية إنكارها انتقال الأرض عن ملكها، في ثبوت الحق لها مع يمينها ـ كما تقدم ـ ولكن السلطة الغاشمة لم تُعِر سُنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أهمية منذ بداية تسلطها على رقاب المسلمين!!! لتُعلن بذلك أنها حكومة دنيوية لا تَمُتُّ إلى الدنيا بِصِلة، وان عهد الانقلاب على الأعقاب قد بدأ ـ كما أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) بذلك، فقد روي عن عايشة أنها قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول وهو بين ظهراني أصحابه إني على الحوض أنتظر مَن يرد عليّ منكم، فَلَيُقَتَطَعَنَّ دوني رجال، فلأقولن أي ربِّ مني ومن أمتي، فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ما زالوا يرجعون على أعقابهم[1].
وكذلك ما رواه ابن طاووس حيث قال: ما رواه الحميدي في الجمع بين الصحيحين أيضا في مسند سهل بن سعد في الحديث الثامن والعشرين من المتفق عليه قال سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: (أنا فَرطُكم على الحوض، مَن ورد شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا، وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم . قال أبو حازم: فسمع النعمان بن أبي عياش وأنا أحدثهم هذا الحديث، فقال: هكذا سمعت سهلاً يقول ؟ قال: فقلت: نعم قال: وأنا أشهد على سعيد أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيقول: إنهم أمتي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول: سحقا سحقا لمن بدل بعدي وغير[2].
4- تصريح الفريقين كذلك بحضور كل من أمير المؤمنين والحسن والحسين (عليهما السلام) وأم أيمن للشهادة بذلك ورفض غاصبي الخلافة لهذه الشهادات وضرب أسس المحاكمة العادلة في هذه القضية، لتكون فضيحة مدوية بوجه مدعي الخلافة زوراً وبهتاناً بعدم أهليتهم لها.
5- ما رواه الفريقان من اقتناع أبي بكر بحق فاطمة (عليها السلام) وكتابته لكتاب بذلك يتضمن إرجاع الحق إليها إلا أن عمر قد صادف حامل الكتاب في الطريق فقرأه ومزقه ومنع أبي بكر من ذلك. جاء في كتاب الاحتجاج: (... فجاء علي (عليه السلام) فشهد: بمثل ذلك فكتب لها كتابا ودفعه إليها، فدخل عمر فقال: ما هذا الكتاب؟ فقال: إن فاطمة (عليها السلام) ادعت في فدك، وشهدت لها أم أيمن وعلي (عليه السلام)، فكتبته لها، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فتفل فيه ومزقه فخرجت فاطمة (عليها السلام) تبكي).[3]
6- تصريح أئمة أهل البيت منذ أمير المؤمنين (عليه السلام) ومَن بعده باغتصاب فدك منهم وهذا بنقل الفريقين، كنقل الجوهري المتقدم وهو من علماء العامة، وكذلك من طرق روايات أهل البيت (عليهم السلام)، كقول أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما سأله أحدهم عن سبب عدم ارجاع فدك، وسيأتي تفصيل ذلك.
وكذلك ما في الاحتجاج: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما بويع أبو بكر واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار، بعث إلى فدك من أخرج وكيل فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله منها، فجاءت فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلى أبي بكر ثم قالت لِمَ تمنعني ميراثي من أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخرجت وكيلي من فدك وقد جعلها لي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمر الله تعالى؟
7 - تصريح الأخبار بإرجاع بعض من تسلّم الحكم من الأمويين والعباسيين فمن مال إلى أهل البيت وحاول إرضائهم بإرجاع حقهم إليهم من فدك: كعمر بن عبد العزيز والمأمون. قال الجوهري في كتابه: أن عمر بن عبد العزيز لما استخلف قال: أيها الناس إني قد رددت عليكم مظالمكم وأول ما أردنها ما كان في يدي من فدك على ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وولد علي بن أبي طالب، فكان أول من ردها. وروي أنه ردها بغلاتها منذ ولي، فقيل له: نقمت على أبي بكر، وعمر فعلهما، فطعنت عليهما ونسبتهما إلى الظلم والغصب، وقد اجتمع عنده في ذلك قريش ومشايخ أهل الشام من علماء السوء فقال عمر بن عبد العزيز: قد صح عندي وعندكم أن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ادعت فدك وكانت في يدها، وما كانت لتكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع شهادة علي، وأم اليمن، وأم سلمة وفاطمة عندي صادقة فيما تدعي، وإن لم تقم البينة، وهي سيدة نساء أهل الجنة، فأنا اليوم أردها على ورثتها أتقرب بذلك إلى رسول الله، وأرجو أن تكون فاطمة، والحسن، والحسين، يشفعون لي في يوم القيامة، ولو كنت بدل أبي بكر، وادعت فاطمة كنت أصدقها على دعواتها، فسلمها إلى محمد بن علي الباقر (عليهم السلام)، وعبد الله بن الحسن، فلم تزل في أيديهم إلى أن مات عمر بن عبد العزيز.[4]
8- الأخبار الدالة على أن الزهراء (عليها السلام) ماتت غاضبة وواجدة من الخليفتين إلى نهاية عمرها الشريف ولم تكلمهما وقد صرحت فيها ان تموت غاضبة عليها. قال الجوهري:( فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت من ذلك على أبي بكر وهجرته فلم تكلمه حتى توفيت) [5]، كما روى ذلك بخاري حيث قال:( فأبى أبو بكر ان يدفع إلى فاطمة منها شيئا فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت) [6].
9- الروايات الدالة على أنها قالت لهما أنها ستدعو عليهما كل صلاة...وقد روى ذلك فضلا عن كتب الشيعة، كبار علمائهم أمثال ابن قتيبة حيث قال: (... فقالت: أرأيتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تعرفانه وتفعلان به؟ قالا: عم. فقالت: نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني ؟ قالا نعم سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قالت: فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه، فقال أبو بكر أنا عائذ بالله تعالى مني سخطه وسخطك يا فاطمة، ثم انتحب أبو بكر يبكي، حتى كادت نفسه أن تزهق، وهي تقول: والله لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها، ثم خرج باكيا فاجتمع إليه الناس، فقال لهم: يبيت كل رجل منكم معانقا حليلته، مسرورا بأهله، وتركتموني وما أنا فيه...)[7].
10ـ ما نقله الفريقان من حضور أبي بكر وعمر عند الزهراء (عليها السلام) بعد حادثة الدار وكسر ضلعها وإسقاط جنينها للاعتذار منها حتى لا يكون ممن يصدق عليها حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله): فاطمة بضعة مني من أغضبها...، وكذلك لتحسين صورتيهما بعد هجومهما على بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) وإحراقه، فقد روى ابن قتيبة أن عمر قال لأبي بكر: ... انطلق بنا إلى فاطمة، فإنا قد أغضبناها، فانطلقا جميعا، فاستأذنا على فاطمة، فلم تأذن لهما، فأتيا عليا فكلماه، فأدخلهما عليها، فلما قعدا عندها، حولت وجهها إلى الحائط، فسلما عليها، فلم ترد عليهما السلام...[8].
11- ما نقله الفريقان من اعتراف أبي بكر عند وفاته وندامته على ما فعله بالزهراء (عليها السلام) وقال في مرض موته: ثلاث فعلتهن وددت أنى تركتهن، وددت أني لم اكشف بيت فاطمة عن شيء وان كانوا قد غلقوه على الحرب، ووددت أني لم أحرق الفجاءة السلمي....[9]
12- ما نقله الفريقان ويؤيده واقع الحال الراهن من مطالبة الزهراء (عليها السلام) في وصيتها لأمير المؤمنين (عليه السلام) إخفاء قبرها وعدم حضور جنازتها احد منهم .. ثم قالت أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني، وأخذوا حقي فإنهم أعدائي وأعداء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وان لا يصلّيَ علَيّ أحد منهم، ولا من أتباعهم، وادفني في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار...[10]، وهو ما حصل بالضبط ليكون أوضح علامة على كفرهما مما لا يقبل التأويل والتبديل والتحريف كغيره من الأحاديث والدلائل والبراهين.
13- ما نقل وأثر عن الزهراء في خطبتها الكبيرة التي خاصمت وهاجمت أبا بكر حول حقها في فدك وهو بنقل الفريقين. حيث خاطبت القوم عامة وأبا بكر خاصة بخطابات دحضت بها، منها قولها (سلام الله عليها): وأنتم الآن تزعمون: أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟! أفلا تعلمون؟ بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية: أني ابنته ...
ومنها: أيها المسلمون أغلب على إرثي؟ يا بن أبي قحافة أفي كتاب الله ترث أباك ولا إرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا ! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ)[11]
ومنها: (وزَعَمْتُمْ أَلَا حَظوَةَ لِي، وَلا إرْثَ مِنْ أبي ولارَحِمَ بَيْنَنَا، أَفَخَصَّكُمُ اللهُ بِآيَةٍ أخْرَجَ مِنْها أبِي؟ أمْ هَلْ تَقُولونَ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ لا يَتَوارَثَانِ، أوَ لَسْتُ أَنَا وَأَبِي مِنْ أَهْلِ مِلَّةٍ واحِدَةٍ؟ أَمْ أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِخُصُوصِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِهِ مِنْ أَبِي وَابْنِ عَمّي؟ فَدُونَكَها مَخْطُومَةً مَرْحُولَةً، تَلْقاكَ يَوْمَ حَشْرِكَ، فَنِعْمَ الْحَكَمُ اللهُ، وَالزَّعِيمُ مُحَمَّدٌ، وَالْمَوْعِدُ الْقِيامَةُ، وَعِنْدَ السّاعَةِ يخسَرُ المبطلون، وَلا يَنْفَعُكُمْ إذْ تَنْدِمُونَ، (وَلِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌ) (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ)).[12]
نعم كل هذه الأسباب وغيرها مما قد يجده الباحث المنصف لا يدع مجالاً لذي لُبّ إلاّ الاعتراف بحصول أول انقلاب على النبي (صلى الله عليه وآله) بعد رحيله (صلى الله عليه وآله) وتغيير سنته، وتكون الزهراء (عليها السلام) وهي أم أبيها أول من فضح هذا الانقلاب وبأوضح بيان وبأسلوب غاية في الحكمة مما لا يصدر إلا من أهل بيت العصمة والرسالة وبأسلوب جعل هذا الأمر ماثلاً مدى الأحقاب والاعصار غير قابل للإنكار والتأويل والاندثار إلى قيام القائم والمنتقم لحق آل محمد (صلى الله عليه وآله).
[1] بحار الأنوار: ج28، ص28.
[2] الطرائف ص373.
[3] الاحتجاج: ج ١، ص122.
[4] السقيفة وفدك: ص147.
[5] السقيفة وفدك: ص107.
[6] صحيح البخاري: ج5، ص82.
[7] الإمامة والسياسة: ج1، ص20.
[8] الإمامة والسياسة: ج1، ص20.
[9] تأريخ الطبري: ج2، ص619، تاريخ مدينة دمشق: ج30، ص419، بحار الأنوار: ج30، ص523.
[10] روضة الواعظين: ج1، ص150.
[11] سورة النمل: آية 16.
[12] الاحتجاج: ج1، ص138.