بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين المعصومين.
ان الله تعالى أمر الإنسان بالعبادة والطاعة، ولم يقصر ذلك على صنف معين من نوع الإنسان، بل هذا الأمر يشمل كلا الصنفين: الذكر والأنثى، قالت الآية الكريمة:
(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [1]
يعد الالتزام في المجتمع أمراً ليس بالعسير، وكذا الفضيلة في محيط طاهر أمر يسير، ولكن الالتزام والتمسك بالطهر في مجتمع فيه انحراف، أمر صعب ونادر، وخديجة بنت خويلد(عليها السلام) كانت من هذا النوع، فالمجتمع الذي عاشت فيه كان موبوءاً بالمعصية، ولكن المعدن الطيب لهذه المرأة الصالحة، ورجحان عقلها جعلها تسلك طريق الكمال والفضيلة والطهر، حتى لُقّبت في أيام الجاهلية بالطاهرة، وهي السيدة المؤمنة المجاهدة المنفقة أم الذرية النبوية الطاهرة، وقد يسأل غير المسلم من هي خديجة؟ ولا غرابة بسؤاله إذ ما عرفناه أن التاريخ الذي كتبته أيدي السلطة غيبت الكثير ممن لهم الفضل في تشييد الدين الإسلامي وانتشاره، ولم يُذكروا إلا بذكر يسير لا يروي الظمآن، ومن الذين شملهم هذا الظلم، أم المؤمنين خديجة، متناسين أنها أول زوجات الرسول(صلى الله عليه وآله) وأحبهم إلى قلبه حيث لم يتزوج عليها بحياتها، ولم ينمح ذكرها عن لسانه بعد رحيلها،كما سوف نرى سيرتها العطرة من خلال هذه الصفحات.
نسبها (عليها السلام):
هي أم المؤمنين السيّدة خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر القرشية فنسبها(عليها السلام) يرجع إلى قبيلة قريش ويلتقي نسبها بنسب رسول الله الأعظم(صلى الله عليه وآله) عند جدها الثالث من أبيها وعند جدها الثامن من أمها.
ألقابها (عليها السلام):
لها سلام الله عليها عدة من الألقاب، وهي مشتقة من صفاتها، فهي أم المؤمنين، قال تعالى:(النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) [2] وأيضا وسَمَها الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله) بوسام عظيم حيث وصفها بأنها سيدة نساء العالمين، كما أن لها ألقابا عرفت بها قبل الإسلام وبعده منها: سيدة قريش، الطاهرة، المباركة، الرضية، الصديقة، وهي أول سيدة مؤمنة بالرسالة والولاية، وأول سيدة مصلية.
أول من أسلمت (عليها السلام) :
جاء في البحار: كانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدّقت بما جاء من الله ووازرته على أمره[3].
كما ذكر الشيخ الطوسي: (وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول لخديجة(عليها السلام) ويخبرها بما يأتيه من قبل أن ينبأ به، وما يراه في منامه، فلمّا أتاه الوحي من عند الله عز وجل بالرسالة أخبرها بذلك ودعاها إلى الإسلام، فآمنت، كما آمن علي(عليه السلام) فكانا أوّل مسلمين به، وعن ابن عباس يقول: أول من آمن برسول الله(صلى الله عليه وآله) من الرجال علي، ومن النساء خديجة(عليها السلام)[4].
وفي الأخبار الواردة أن الإسلام لم يقم إلا بمال خديجة(عليها السلام)، كما صرّح به رسول الإنسانية(صلى الله عليه وآله) ، ذكر الشيخ الطوسي: (قال أبو عبيدة: فقلت لعبيد الله يعني ابن أبي رافع: أوَ كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يجد ما ينفقه هكذا؟ فقال: فأين يذهب بك عن مال خديجة(عليها السلام)، وقال: إن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة(عليها السلام)، وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يفك من مالها الغارم والعاني، ويحمل الكل ويعطي في النائبة ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكة، ويحمل من أراد منهم الهجرة، وكانت أكثر قريش مالاً)[5]، وهذه شهادة عظيمة المنزلة والقدر لمولاتنا وسيدتنا خديجة(عليها السلام) من خاتم النبيين.
إخلاصها للرسول (صلى الله عليه وآله) :
كانت خديجة(عليها السلام) تقوم بأدوار بطولية ورسالية، فكانت تمثل بلسما لآهات وآلام النبي(صلى الله عليه وآله) ، كما كان النبي(صلى الله عليه وآله) مدة وجوده في مكة يتمتع بحماية عمه ودفاعه عنه، وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: (ما اغتممت بغمّ أيام حياة أبي طالب وخديجة)[6]. ولقد كانت هذه المرأة العظيمة في غاية الإخلاص والاحترام للرسول(صلى الله عليه وآله) لا سيما في أصعب الظروف التي مرت به(صلى الله عليه وآله) ، فكانت مؤنسته عندما يرجع إلى بيته(صلى الله عليه وآله) فتزيل عنه الهموم والغموم والآلام، وتستقبله بالحب، وتسمعه أجمل الكلمات التي من شأنها أن تذهب عنه الآلام والجراح التي تحمّلها لأجل نشر هذه الرسالة الخالدة العظيمة.
منزلة خديجة عند الله ورسوله:
كان لها منزلة عظيمة عند الله تعالى والنبي(صلى الله عليه وآله) ، وتتمتع بمكانة خاصة حيث ورد في الأخبار أن الله أمر النبي(صلى الله عليه وآله) بالسلام عليها، وغير ذلك، قال المجلسي: إن جبرائيل أتى النبي(صلى الله عليه وآله) فسأل عن خديجة فلم يجدها، فقال: إذا جاءت فأخبرها أن ربها يقرؤها السلام[7] وزاد ابن حجر[8] أنها قالت: (إن الله هو السلام وعلى جبريل السلام وعليك السلام ورحمة الله)، لا إشكال أن لهذا السلام منشأ، وإلا فإنه لا يصدر عن الحكيم لأنه يلزم اللغوية، والخالق منزه من اللغوية، بالأدلة العقلية والنقلية، وهذا السلام يكشف أن لهذا الفرد خصوصية عند المولى تعالى.
وكان(صلى الله عليه وآله) يجلها في حياتها وحتى بعد وفاتها، ويعتز بها ويقدر مواقفها المشرفة، كما روي عنه(صلى الله عليه وآله) أنه قال: (يا خديجة إنّ الله عزّ وجلّ ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مرارا)[9]، وروي ابن هشام في سيرته[10]، عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنه قال: (لم يرزقني الله زوجة أفضل من خديجة أبداً.
كما ذكر الكنجي الشافعي عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة قالت: ما غِرت على نساء النبي(صلى الله عليه وآله) إلا على خديجة، وإني لم أدركها. وكان رسول الله إذا ذبح شاة يقول: أرسلوا بها الى أصدقاء خديجة، قال: فأغضبته[عائشة] يوماً ... فقال: إني رزقت حبّها[11].
وذكر ابن الجوزي في تاريخه[12] عن عائشة: (كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة(عليها السلام) فيحسن عليها الثناء، فذكرها يوماً من الأيام فأدركتني الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزاً قد أخلف الله لك خيراً منها؟ قالت: فغضب حتى اهتزّ مقدم شعره من الغضب، ثم قال: لا والله ما أخلف الله لي خيراً منها، لقد آمنت إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل أولادها إذ حرمني أولاد الناس)، ولعمري لقد كان هذا من عائشة بعد وفاة خديجة(عليها السلام)، فكيف لو كانت سلام الله عليها على قيد الحياة؟! وإذا كانت غيرة عائشة قد بلغت الأموات، فما حالها مع الأحياء، وكيف كانت معاملتها لهن؟!
أقول: لو لم يكن إلا هذه الرواية في ذكر سيدتنا ومولاتنا أم المؤمنين خديجة(عليها السلام) لكانت أعظم شهادة لها في هذا الكون وعلى لسان مَن؟ لسان رسول
الإنسانية وخاتم النبيين(صلى الله عليه وآله) الذي لا ينطق عن الهوى، ويقسم بالله العظيم على عظم شأنها وحبها وإيمانها وتصديقها بالله ورسوله في وقت كفر الناس به وصدّوا عنه، وأن الله لم يخلفه خيراً منها - أي أنه لم تسد مكانها أية زوجة من زوجاته(صلى الله عليه وآله) -. هذه الشهادة عند الإنسان العاقل والمنصف، وعند من لا تتحكم به العصبية والحقد البغيض، ليست بقليلة بل هي حقيقة واضحة وشهادة عظيمة لهذه الإنسانة العظيمة التي ضحت بنفسها وأموالها وذريتها، وكل ما ملكت من أجل إعلاء كلمة الحق وإحياء هذا الدين ونصرته ودحض الباطل وأهله.
وصاياها (عليها السلام):
وجاء في كتاب شجرة طوبى: ولما اشتد مرضها قالت: يا رسول الله اسمع وصاياي... الوصية الثالثة فإني أقولها لابنتي فاطمة وهي تقول لك فإني مستحية منك يا رسول الله، فقام النبي(صلى الله عليه وآله) وخرج من الحجرة، فدعت بفاطمة وقالت: يا حبيبتي وقرة عيني قولي لأبيك إن أمي تقول أنا خائفة من القبر أريد منك رداءك الذي تلبسه حين نزول الوحي تكفّنني فيه، فخرجت فاطمة وقالت لأبيها ما قالت أمها خديجة، فقام النبي(صلى الله عليه وآله) وسلم الرداء إلى فاطمة وجاءت به إلى أمها فسرّت به سروراً عظيماً، فلما توفيت خديجة أخذ رسول الله(صلى الله عليه وآله) في تجهيزها وغسّلها وحنطها، فلما أراد أن يكفّنها هبط الأمين جبرائيل وقال: يا رسول الله إن الله يقرؤك السلام ويخصّك بالتحية والإكرام ويقول لك: يا محمد إن كفن خديجة من عندنا فإنها بذلت مالها في سبيلنا فجاء جبرائيل بكفن وقال: يا رسول الله هذا كفن خديجة وهو من أكفان الجنة أهداه الله إليها، فكفنها رسول الله بردائه الشريف أولاً وبما جاء به جبرائيل ثانياً، فكان لها كفنان، كفن من الله وكفن من رسول الله[13](صلى الله عليه وآله) .
وفاة السيّدة خديّجة (عليها السلام):
أقامت(عليها السلام) مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) أربعاً وعشرين سنة وشهراً، ولم يتزوّج غيرها، إلاّ بعد أن توفيت(عليها السلام)[14]. وكانت وفاتها مصيبة عظيمة على قلب رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقد تبعتها مصائب وكوارث تحمّلها النبي(صلى الله عليه وآله) برباطة جأش وصبر على المكاره، حتى إنه(صلى الله عليه وآله) سمى العام الذي توفي فيه أبو طالب وخديجة(عليها السلام) بعام الحزن[15].
وعند دفنها نزل رسول الله(صلى الله عليه وآله) في حفرتها وأدخلها القبر بيده الشريفة في مقبرة الحجون -والحجون: بفتح الحاء جبل بمكّة-[16]، وكان على قبرها قبة، وقد طالتها ايدي التخريب، فهدمت.
وكانت وفاة السيّدة خديجة(عليها السلام) وأبي طالب(عليه السلام)في عام واحد قبل الهجرة بثلاث سنين أي في السنة العاشرة من البعثة بعد خروج بني هاشم من الشعب[17].
وبعد وفاة السيد خديجة(عليها السلام) أصبح منزلها أحد الأماكن المقدسة التي يؤمّها آلاف الحجاج سنوياً، يقول الشيخ الأنصاري إذا نزلت مكة المكرمة يستحب للحاج أن يزور بيت خديجة(عليها السلام)[18].
وللأسف الشديد لم تترك الفرقة الوهابية الضالة عدوة الدين والإسلام قبة الوحي فقد امتدّت إليها بالتخريب والتدمير كما هو شأن باقي الآثار الإسلامية وسوّتها بالأرض فإنا لله وإنا إليه راجعون، فسلامٌ على أمّ المؤمنين خديجةَ قرينةِ سيّد الأنبياء والمرسَلين وأمِّ سيّدة نساء العالمين.
والسلام عليها يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد واله الطاهرين.
لتحميل الملف اضغط هنا
[1] سورة النحل: آية 97.
[2] سورة الأحزاب: آية 6.
[3] البحار: ج16 ص10.
[4] الأمالي: ص259 ح467.
[5] الأمالي: ص468.
[6] القاضي النعمان، شرح الأخبار، ج3.
[7] البحار: ج66 ص8.
[8] ابن حجر ، الإصابة ج8 ، ص102.
[9] بحار الأنوار ج 16 ص 78.
[10] سيرة ابن هشام ، ج1، ص80.
[11] صحيح مسلم ج4 ص 1888 وكفاية الطالب: ص359.
[12] تاريخ ابن الجوزي: ج3، ص18.
[13] شجرة طوبى ج2 ص235.
[14] بحار الأنوار: ج22 ص200.
[15] بحار الأنوار: ج19 ص25.
[16] بحار الأنوار: ج18 ص97.
[17] بحار الأنوار: ج19 ص20.
[18] كتاب مناسك الحج.