مناظرة ابن عباس مع الحرورية

لمّا خرجت الحرورية اعتزلوا في ديارهم وكانوا نحو ستة آلاف رجل وهم جماعة من الخوارج والنواصب، ونسبة تسميتهم بذلك طبقا لمدينة قرب الكوفة على بعد ميلين منها تسمى (حرُوراء)، نزلوا بها بعد خروجهم على أمير المؤمنين(عليه السلام).

فقال ابن عباس لعلي(عليه السلام): يا أمير المؤمنين أبرد بالظهر، لعَليّ آتي هؤلاء القوم فأكلمهم.

فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): إني أخاف عليك.

فقال: لا تخف.

فذهب ابن عباس يقصدهم وهم قائلون ـ وقت القيلولة، فسلم عليهم.

فقالوا له: ما جاء بك؟.

قال ابن عباس: أتيتكم من عند أصحاب النبي وصهره، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله منكم، لأبلّغكم وأخبرهم بما تقولون، فلِم نقمتم على ابن عم رسول الله؟.

قال الحرورية: ثلاث.

فقال: ما هن؟.

قالوا: فأما الأولى فقد حَكَّم الرجال في أمر الله، وقال تعالى: (إن الحكم إلا الله)[1].

فقال ابن عباس: هذه واحدة.

قالوا: وأما الثانية، فإنه قاتل ولم يَسبِ ولم يغنم، فإن كانوا كفارا سلبهم، وإن كانوا مؤمنين ما أحل قتالهم ففي حرب الجمل نهى عن قتل جريحهم وسبيهم واتباع مدبرهم.

قال ابن عباس: هذه اثنتان، فما الثالثة؟.

قالوا: محى نفسه عن أمرة المؤمنين، فهو أمير الكافرين.

قال ابن عباس: هل عندكم شيء آخر؟.

قالوا: حسبنا هذا.

فقال ابن عباس: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله ومن سنة نبيه(صلى الله عليه وآله) ما يردّ قولكم، أترضون؟.

قالوا: نعم.

فقال ابن عباس: أما الأولى فقد صيَّر الله حكمه إلى الرجال في ثَمَن ربع درهم، فأمر الرجال أن يحكموا فيه، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم)[2]، فأنشدتكم بالله: أحكمُ الرجال في أرنب ونحوها من الصيد أفضل؟ أم حكمهم في دمائهم وصلاح ذات بينهم؟.

قال الحرورية: بل هذا أفضل.

فقال ابن عباس: كذلك الحكم في المرأة وزوجها قال الله تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما)[3]، فنشدتكم بالله أوليس حكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في امرأة؟.

قالوا: نعم.

فقال ابن عباس: وأما الثانية، أفَتسْبوُن أمَّكم عائشة، وتستحلون منها ما تستحلون من غيرها، وهي أمُكم؟ فإن قلتم: نعم، فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمنا، فقد كذبتم، لأن الله تعالى يقول: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم)[4]، فأنتم تدورون بين ضلالتين! أفخرجتُ من هذه؟.

قالوا: نعم.

فقال بن عباس: وأما الثالثة فأنا آتيكم بمن ترضون، وأراكم قد سمعتم أن النبي(صلى الله عليه وآله) يوم الحديبية صالح المشركين، فقال لعلي(عليه السلام): أكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال المشركون: لا، ما نعلم أنك رسول و الله، لو نعلم أنك رسول الله لأطعناك، فاكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، فقال رسول الله: أمح يا عليّ (رسول الله) اللّهم إنك تعلم أني رسولك، أمح يا عليّ واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، فوالله لرسول الله خير من علي، وقد محا نفسه، ولم يكن محوه ذلك يمحيه من النبوة، أفخرجتُ من هذه؟.

قالوا: نعم.

فرجع منهم ألفان، وخرج سائرهم، فَقُتِلوا على ضلالتهم.

مجلة اليقين، العدد (22)، الصفحة (8 - 9).

 


[1] سورة الأنعام: الآية 57.

[2] سورة المائدة: الآية 95.

[3] سورة النساء: الآية 35.

[4] سورة الأحزاب: الآية 6.