الإنفاق المطلوب في القرآن الكريم

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ * وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ * وَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ)[1].

 سبب النزول:

عن الصادق (عليه السلام) أنها نزلت في أقوام لهم ربا في الجاهلية، وكانوا يتصدقون منه، فنهاهم الله عن ذلك وأمر بالصدقة من الطيب الحلال.

عن علي (عليه السلام) أنها نزلت في قوم كانوا يأتون بالحشف (وهو أردأ التمر) فيدخلونه في الصدقة.

وليس بين الروايتين أي تعارض، ولعل الآية نزلت في كلتا الفئتين، فالشأن الأول يختص الطهارة المعنوية، ويخص الثاني طيب الظاهر المادي.

ولكن ينبغي الإشارة إلى أن المرابين في الجاهلية امتنعوا عن تعاطي الربا بعد نزول الآية 275 من سورة البقرة، ولم تحرم عليهم أموالهم السابقة، أي إن الآية لم يكن لها أثر رجعي، ولكن من الواضح أن هذا المال وإن يكن حلالاً، فهو يختلف عن الأموال الأخرى، فكان في الحقيقة أشبه بتحصيل أموال عن طرق مكروهة.

التفسير:

شرحت الآيات السابقة ثمار الإنفاق وصفات المنفقين والأعمال التي قد تبطل أعمال الإنفاق الإنسانية في سبيل الله. وهذه الآية تبين نوعية الأموال التي يمكن أن تنفق في سبيل الله.

في بداية الآية يأمر الله المؤمنين أن ينفقوا من (طَيِّبَاتِ) أموالهم.

و (الطيب) في اللغة هو الطاهر النقي من الناحية المعنوية والمادية، أي الأموال الجيدة النافعة والتي لا شبهة فيها من حيث حليتها. ويؤيد عمومية الآية الروايتان المذكورتان في سبب النزول.

كما أن (وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ) أي أنكم أنفسكم لا تأخذون غير الطيب من المال إلا إذا أغمضتم أعينكم كارهين دليل على أن المقصود ليس الطهارة الظاهرية فقط، لأن المؤمنين لا يقبلون مالاً تافها ملوثاً في ظاهره، كما لا يقبلون مالاً مشبوهاً مكروها إلا بالإكراه والتغاضي. (وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ). كانت (مَا كَسَبْتُمْ) في الآية إشارة إلى الدخل التجاري، وقوله تعالى: (وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ) إشارة إلى الدخل الزراعي وعائدات المناجم، فهو يشمل كل أنواع الدخل، لأن أصل دخل الإنسان ينبع من الأرض ومصادرها المتنوعة، بما فيها الصناعة والتجارة وتربية المواشي وغير ذلك. تقول هذه الآية: إننا وضعنا مصادر الثروة هذه تحت تصرفكم، لذلك ينبغي أن لا تمتنعوا عن إنفاق خير ما عندكم في سبيل الله. (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ).

اعتاد معظم الناس أن ينفقوا من فضول أموالهم التي لا قيمة لها أو الساقطة التي لم تعد تنفعهم في شيء.

إن هذا النوع من الإنفاق لا هو يربّي روح المنفق، ولا هو يرتق فتقاً لمحتاج، بل لعله إهانة له وتحقير.

فجاءت هذه الآية تنهى بصراحة عن هذا وتقول للناس: كيف تنفقون مثل هذا المال الذي لا تقبلونه أنتم إذا عرض عليكم إلا إذا اضطررتم إلى قبوله؟

أترون إخوانكم المسلمين، بل أترون الله الذي في سبيله تنفقون أقل شأنا منكم؟

الآية تشير في الواقع إلى فكرة عميقة، وهي أن للإنفاق في سبيل الله طرفين، فالمحتاجون في طرف، والله في طرف آخر. فإذا اختير المال المنفق من زهيد الأشياء ففي ذلك إهانة لمقام الله العزيز الذي لم يجده المنفق جديراً بطيبات ما عنده، كما هو إهانة للذين يحتاجونه، وهم ربما يكونون من ذوي الدرجات الإيمانية السامية، وعندئذ يسبب لهم هذا المال الرديء الألم والعذاب النفسي.

التعبير بكلمة (الطيبات) يشمل الطيب الظاهري الذي يستحق الإنفاق والمصرف، وكذلك الطيب المعنوي، أي الطاهر من الأموال المشتبه والحرام لأن المؤمنين لا يرغبون في تناول مثل هذه الأموال.

وقوله تعالى: (إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ) تشمل الجميع، فما ذهب إليه بعض المفسرين من حصرها بأحد هذين المعنيين بعيد عن الصواب، ونظير هذه الآية ما جاء في سورة آل عمران الآية 92 حيث يقول: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (سورة آل عمران: آية92)، وطبعاً هذه الآية ناظرة أكثر إلى الآثار المعنوية للإنفاق.

وفي ختام الآية يقول تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ)، أي لا تنسوا أن الله لا حاجة به لإنفاقكم فهو غني من كل جهة، بل أن جميع المواهب والنعم تحت أمره وفي دائرة قدرته، ولذلك فهو حميد ومستحق للثناء والحمد، لأنه وضع كل هذه النعم بين أيديكم.

واحتمل البعض أن كلمة (حَمِيدٌ) تأتي هنا بمعنى اسم الفاعل (حامد) لا بمعنى محمود، أي أنه على الرغم من غناه عن إنفاقكم فإنه يحمدكم على ما تنفقون.

ملاحظة:

لا شك أن الإنفاق في سبيل الله هو من أجل نيل القرب من ساحته المقدسة، وعندما يريد الناس التقرب إلى السلاطين وأصحاب النفوذ فإنهم يقدمون إليهم هدايا من أفضل أموالهم وأحسن ثرواتهم، في حين أن هؤلاء السلاطين أناس مثلهم؛ فكيف يتقرب الإنسان إلى ربه وخالقه ورب السماوات والأرض بتقديم بعض أمواله الدنيئة كهدية؟!

فما نرى في الأحكام الشرعية من وجوب كون الزكاة وحتى الهدي في الحج من المرغوب والجيد يدخل في دائرة هذا الاعتبار.

وعلى كل حال يجب الالتزام ونشر هذه الثقافة القرآنية بين صفوف المسلمين في إنفاقهم الجيد من الأموال[2].

مجلة بيوت المتقين العدد (84)

 


[1] سورة البقرة: الآية 267.

[2] الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: ج2، ص308 - 311 بتصرف.