معركة الخندق

من السنن الإلهية اختيار الرسل والأنبياء، وإعدادهم لتحمل المسؤولية، لتوقف الدعوة إلى الله التي يحملونها على مدى إيمانهم وإخلاصهم وتضحياتهم في سبيل ما جاؤا به، ومن الواضح أن الحركات والأفكار التغييرية في المجتمع لا تعتمد في تحقيق أهدافها ومبادئها على إيمان رجالها وقادتها فقط، بل تحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى المخلصين من الأتباع والرواد من حملة هذا الفكر الجديد، لذا ومن هذا المنطلق اهتم الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) بتربية رجال أكفاء، يتمتعون بمميزات خاصة من أهمها الإيمان الراسخ والاستعداد الكامل لبذل كل شيء في سبيل تحقيق أهداف الرسالة، وهذه النماذج عادة ما تكون عزيزة في المجتمعات.

ومن الصفات المهمة التي لها أثر كبير على حياة الإنسان والتي يدعو إليها الدين الإسلامي هي صفة التوكل على الله تعالى، فالإنسان لابد أن لا يرى قدرة غالبة إلا قدرة الله تعالى، وأن كل شيء في قبضته تعالى. إن هذه الصفة متجذرة وثابتة عند أولياء الله، فمثلا تجد أن ابرهة عندما أراد هدم الكعبة واجهه عبد المطلب(عليه السلام) بذلك الموقف الصلب الذي ملؤه الإيمان والثقة والتوكل على الله تعالى، وتتمثل هذه الصفة في أعلى مراتبها عند النبي(صلى الله عليه وآله) وأهل البيت(عليهم السلام)، فهذه حياتهم(عليهم السلام) تجدها مليئة بالمصاعب والأزمات التي تهد الجبال، ومع ذلك وبسبب اعتمادهم على الله لم تنثن عزيمتهم ولم يضعف جهادهم في سبيل الله، لذا عندما تكالب المشركون على حرب النبي(صلى الله عليه وآله) واجمعوا أمرهم على استئصال الإسلام المتمثل بالنبي(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام)، والثلة المؤمنة من اصحابه، ومع كل هذا نجده(صلى الله عليه وآله) يقف كالجبل الصلد لم تهزه العواصف ولم يكترث لما جرى، نجده يتوجه إلى الله تعالى بنية خالصة وقلب ملؤه الثقة بالله تعالى، فكان كما قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[1]، وهذا هو عين ما روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) حيث قال: (إن قريشاً والعرب تجمعت، وعقدت بينها عقداً وميثاقاً لا ترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وتقتلنا معه معاشر بني عبد المطلب)[2].

النبي(صلى الله عليه وآله) في المدية المنورة:

هاجر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة المنورة التي كانت تسمى يثرب- يثرب قبل أن يهاجر إليها النبي(صلى الله عليه وآله).

بدأ(صلى الله عليه وآله) يؤسس الحكومة الإسلامية ويشيّد أركانها وسط تهديدات وأخطار كبيرة، من خارج المدينة المنورة، متمثلا بالمشركين من قريش وغيرها، وخطر داخل المدينة وحولها متمثل بالمنافقين واليهود، ولعل أشد ما مرّ على الإسلام حادثةٌ في السنة الخامسة من الهجرة ألا وهي معركة الأحزاب حتى إنه نزلت آيات كثيرة تتحدث حولها وسميت سورة في القرآن باسمها، نعم تلك المعركة التي كانت تحولا وانعطافا في تاريخ الإسلام وحياة المسلمين، معركة قلبت موازين القوى في المنطقة، وكانت مفتاحاً وبداية لانتصارات عظيمة حققها النبي(صلى الله عليه وآله) وأتباعه المخلصون، فقد كان بعض اليهود، وهم ثلاث قبائل: بنو النضير، بنو قينقاع، وبنو قريظة، يسكنون في المدينة المنورة، وقد عقد النبي(صلى الله عليه وآله) معهم عهوداً تم بموجبها الاتفاق على عدم محاربة اليهود للإسلام وأهله، إلا أن اليهود لم يلتزموا ونقضوا العهد كما هو حالهم وسيرتهم إلى يوم الناس هذا، مما حدى بالنبي(صلى الله عليه وآله) أن يحاربهم ويخرجهم، فالتحق بعضهم بيهود خيبر، إلّا بني قريظة فإنهم التزموا بالاتفاق آنذاك، وأخذ اليهود يؤلبون الناس على الإسلام وأهله.

ولعل أول شرارة لمعركة الأحزاب كانت من يهود بني النضير الذين جاءوا إلى مكة وعقدوا اتفاقاً مع مشركي قريش لحرب النبي(صلى الله عليه وآله). ثم جاءوا إلى قبيلة غطفان أيضا، وانضم إليهم حلفاؤهم من القبائل الأخرى كقبيلة أسد وبني سليم واتفقوا على القضاء على الإسلام ونبيه(صلى الله عليه وآله) حسب زعمهم.

بلغت النبي(صلى الله عليه وآله) تلك الأخبار فأخذ بالاستعداد لمواجهة الكفر كله، وبما أن عدد المسلمين قليل مقابل العدو الغازي، جمع النبي(صلى الله عليه وآله) الأنصار والمهاجرين واخبرهم بالأمر، فكانت هناك عدة آراء حول مواجهتهم، فما كان منه(صلى الله عليه وآله) إلا الإشارة إلى الأخذ برأي سلمان المحمدي بحفر الخندق حول المدينة بحيث لا يستطيع العدو العبور، وبالتالي الوصول إلى المدينة، ولهذا كان أحد أسماء هذه المعركة هو معركة الخندق. لقد مرت على المسلمين لحظات صعبة وخطيرة في نفس الوقت، ولعل أروع ما يصور لنا حال المسلمين آنذاك القران الكريم حيث عبر عن ذلك بأبلغ وصف فقال تعالى فيه: ﴿بَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ[3]، فهو كناية عن الاضطراب والقلق والخوف الشديد الذي تملك المسلمين آنذاك، ومنها أيضا ﴿زَاغَتْ الأَبْصَارُ[4]، وهذا إشارة إلى حالة الإنسان عند خوفه واضطرابه فإنه تميل عيناه إلى جهة، وتثبت على نقطة معينة ويبقى متحيراً.

وهذا بطبيعة الحال يدل على أن هناك من المسلمين من لم يصل إلى مرحلة الإيمان التام ولم يصمد أمام الامتحان الإلهي، وهذا هو الابتلاء كما عبرت عنه الآية: ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدا[5].

ومن الواضح أن الإنسان عندما يداهمه خطر ويحيط به فإن شعوره بالخوف والاضطراب تبدو آثاره على أعضاء جسمه، فتراه لا يستطيع الاستقرار في مجلس واحد، ويتحرّك بحركات معينة أو أنه يجمد في مكانه لا يتحرك أبداً.

وهذا هو ما أصاب الجيش الإسلامي في غزوة الخندق، ونجد هذه الحالة واضحة من خلال موقفهم أمام خمسة من أبطال العرب على رأسهم عمرو بن عبد ود الذين عبروا الخندق، وطلبوا المبارزة سيما عمرو بن عبد ود الذي كان يكرر نداءه وأخذ يستهزئ بالمسلمين وبالجنة والنار، فكان السكوت مطبقاً على معسكر المسلمين سوى صوت فتى الإسلام وبطله على الإطلاق الوصي أمير المؤمنين(عليه السلام)، فلم يجرؤ أحد سوى علي بن أبي طالب(عليه السلام)
على التقدم إليه، فهب(عليه السلام) لنصرة الدين وإجابة نداء الرسول(صلى الله عليه وآله)، فقتل عمرا وعجل بروحه إلى جهنم، وحقق النصر للإسلام والمسلمين: ﴿وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيّاً عَزِيزاً[6]، وهنا تجدر الإشارة إلى أنه كان من الصحابة يصرح باسم علي بن أبي طالب عند قراءة هذه الآية، فقد ورد عن عبد الله بن مسعود، أنه كان يقرأ: ﴿وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾بعلي ﴿وَكَانَ اللهُ قَوِيّاً عَزِيزاً[7].

وقال ابن عباس: في قوله تعالى: ﴿وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾، قال: بعلي بن أبي طالب[8].

 فكلمة: بعلي ليست من القرآن، وإنما هي زيادة تفسيرية للآية، للتأكيد على نزولها في أمير المؤمنين(عليه السلام)، فهذا هو مكان معرفة الرجال في ساحات الوغى وعند المصاعب والشدائد، لا في الأمن والاستقرار كما هو عليه بعض الناس ممن وضعت لهم السلطة صفات ومزايا لم تكن لديهم، نجدهم لا ينطقوا إلا عند الأمن، ولا يصمدون عند المواجة كما تشهد لذلك عدة من حروب النبي(صلى الله عليه وآله) ومنها معركة أحد وحنين، نعم كان أمير المؤمنين(عليه السلام) هو صانع النصر للإسلام والجندي المدافع عن الدين والنبي(صلى الله عليه وآله)، فما من خطر داهم الإسلام إلا وكان(عليه السلام) هو المدافع المضحي دون غيره، وقد رسمت لنا صورة عن ذلك سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء(عليها السلام) في خطبتها العظيمة بقولها: (تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بأبي محمّد، بعد اللتيا واللتي، وبعد أن مُني ببهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب، كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن للشيطان، أو فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتّى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله، مجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله، سيّداً في أولياء الله، مشمّراً، ناصحاً، مجدّاً، كادحاً، لا تأخذه في الله لومة لائم، وأنتم في رفاهية من العيش، وادعون فاكهون آمنون، تتربّصون بنا الدوائر، وتتوكّفون الأخبار، وتنكصون عند النزال، وتفرّون من القتال)[9].

فنجد أمير المؤمنين(عليه السلام) حاملا لراية النبي (صلى الله عليه وآله) في كل معركة خاضها(صلى الله عليه وآله)
ضد الكفر والطغيان، (يَحْذُو حَذْوَ الرَّسُولِ صَلّى الله عَلَيْهِما وَآلِهِما وَيُقاتِلُ عَلى التَأوِيلِ وَلا تَأخُذُهُ فِي الله لَوْمَةُ لائِمٍ ؛ قَدْ وَتَرَ فِيهِ صَناديدَ العَرَبِ وَقَتَلَ أَبْطالَهُمْ وَناوَشَ ذُؤْبانَهُمْ فَأَوْدَعَ قُلُوبَهُمْ أَحْقاداً بَدْرِيَّةً وَخَيْبَرِيَّةً وَحُنَيْنِيَّةً وَغَيْرَهُنَّ، فَأَضَبَّتْ عَلى عَداوَتِهِ وَأَكَبَّتْ عَلى مُنابَذَتِهِ)[10].

وكذا حمل راية الإسلام والدفاع عن الحق حتى بعد استشهاد النبي(صلى الله عليه وآله) حيث قَتَلَ النَّاكِثِينَ وَالقاسِطِينَ وَالمارِقِينَ، نعم، (وكانَ بَعْدَهُ هُدىً مِنَ الضَّلالِ وَنُوراً مِنَ العَمى وَحَبْلَ الله المَتِينَ وَصِراطَهُ المُسْتَقِيمَ لا يُسْبَقُ بِقَرابَةٍ فِي رَحِمٍ وَلا بِسابِقَةٍ فِي دِينٍ وَلا يُلْحَقُ فِي مَنْقَبَةٍ مِنْ مَناقِبِهِ)[11]، وهكذا أولاده(عليهم السلام)، وأيضا سار على هذا النهج أتباعه، فنجدهم حملة راية الدين وحماته في كل زمان ومكان، وبالمقابل نجد أن الأعداء وعلى رأسهم اليهود كما كانوا يتآمرون على النبي(صلى الله عليه وآله) والإسلام، كذالك هم اليوم على تلك الحالة من المؤامرة والحقد والعدوان، لذا نجد أتباع أهل البيت (عليهم السلام) يواجهون المصائب والأزمات بعزم لا يلين، وبصبر مستمد من عقيدة راسخة، وبثبات قدم، واستعداد للبذل والعطاء في سبيل إعلاء كلمة الحق وأهله، فعند الابتلاء بالفتن تكشف الحقائق وتظهر بواطن النفوس وتتجلى المواقف، فيبرز صاحب الإيمان والتقوى دون غيره ممن يخادع: ﴿يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ[12].

كان النبي(صلى الله عليه وآله) يواجه عدة من الأخطار والتهديدات من قبل عدة أطراف، فهو في مواجهة مع مشركي قريش أو غيرها، ومع المنافقين الذين اظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر المتغلغلين في صفوف المسلمين، ومع الأعراب الذين هم حول المدينة، ومع اليهود الساكنين في المدينة وحولها. فكان الوضع في المدينة المنورة ليس بحال جيدة، وبهذه الظروف داهم المدينة خطر كبير تمثل بإجماع الكفار على مختلف مستوياتهم على استئصال النبي(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته. لذا تعتبر غزوة الأحزاب حادثة مهمة في حياة الإسلام والمسلمين كما وتعتبر تحولا كبيرا كما قال النبي(صلى الله عليه وآله): (الآن نغزوهم ولا يغزونا)[13]، فكان كما قال(صلى الله عليه وآله) فلم يغزهم قريش بعد ذلك وكان هو يغزوهم حتى فتح الله عليهم مكة.

لماذا يعادون الإسلام وأهله:

غالبا نجد المعارك والغزوات والأحداث الأخرى لها مقدمات سبقتها تكون بمثابة المبرر والدافع لقيامها وحدوثها. ونلاحظ أن هذا سمة واضحة في الحروب التي خاضها النبي(صلى الله عليه وآله) ضد المشركين، فنلاحظ أن هناك أسبابا خاصة لأغلب غزوات النبي(صلى الله عليه وآله) والسرايا التي كان يبعثها(صلى الله عليه وآله)، وإن كانت تشترك جميعها بسبب واحد وهو الدفاع عن الإسلام وأهله، إلا أننا نجد أنهم يذكرون أسبابا للغزوات والسرايا.

ومن الملاحظ أن المشركين بدأ حقدهم وعداوتهم للنبي(صلى الله عليه وآله) من حين إعلانه(صلى الله عليه وآله) لرسالته الخالدة، بل لعله أسبق من ذلك كما هو حال اليهود، فقد ذكر أرباب السير والتاريخ أن هناك العديد من المحاولات قام بها اليهود للقضاء على النبي(صلى الله عليه وآله) منذ ولادته(صلى الله عليه وآله) واستمرت حتى بعد البعثة، نعم عملوا بما وسعهم للقضاء على الإسلام ونبيه(صلى الله عليه وآله)، فكانوا يحملون من الحقد والبغض والعداوة على الإسلام وأهله ما لا يعلمه إلا الله، وقد أوضح هذا الحال القران الكريم بشكل لا يشوبه أدنى التباس من خلال قوله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا[14]، واستمر هذا العداء بشكل مطرد فكلما اتسعت رقعة الإسلام وانتشر كلما زاد حقدهم وتآمرهم على الدين، ولازالوا على ذلك إلى يوم الناس هذا، فنجدهم اليوم وسابقاً يمارسون حربهم ضد الدين وأهله بشتى الأساليب والطرق سواء كانت العسكرية أم الدعائية أم بث الفرقة والتجزئة بين صفوف المسلمين أم من خلال زرع وصناعة عملاء لهم ممن باع نفسه ودينه وغرته الدنيا فكان من الخاسرين، نعم هناك فئة من الناس يسلكون شتى الطرق لإنجاح أهدافهم ومخططاتهم سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة، وبعبارة أخرى مبدؤهم(الغاية تبرر الوسيلة).

أول من حفر الخندق:

 صرح القمي في تفسيره: بأن رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان هو البادئ في حفر الخندق، حيث قال: (وأخذ معولاً، فحفر في موضع المهاجرين بنفسه. وأمير المؤمنين(عليه السلام) ينقل التراب من الحفرة، حتى عرق رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعيي، وقال:

لا عيش إلا عيش الآخرة      اللهم اغفر للأنصار والمهاجرة

فلما نظر الناس إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) يحفر اجتهدوا في الحفر، ونقلوا التراب، فلما كان في اليوم الثاني بكروا إلى الحفر، وقعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مسجد الفتح)[15].

وقد ظهرت له(صلى الله عليه وآله) حينئذٍ كرامات ومعجزات، فقد ورد عن جابر بن عبد الله، قال: كنت مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) في حفر الخندق، وقد حفر الناس وحفر علي(عليه السلام)، فقال النبي(صلى الله عليه وآله): (بأبي من يحفر وجبرائيل يكنس التراب بين يديه وميكائيل يعينه، ولم يكن يعين أحداً قبله من الخلق)[16].

ثم قال النبي(صلى الله عليه وآله) لعثمان بن عفان: (إحفِر)، فغضب عثمان، وقال: لا يرضى محمد أن أسلمنا على يده حتى يأمرنا بالكدّ، فأنزل الله على نبيه: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[17]، كما ورد في قوله تعالى: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا﴾، أنها نزلت في عثمان يوم الخندق، وذلك أنه مرّ بعمّار بن ياسر وهو يحفر الخندق، وقد ارتفع الغبار من الحفر، فوضع عثمان كمه على أنفه ومرّ، فقال عمّار:

لا يستوي من يعمر المساجدا    يظلّ فيها راكعاً وساجدا

كمن يمُرّ بالغبـــــار حائــدا      يعرض عنه جاهِداً مُعاندا

فالتفت إليه عثمان، فقال: يا بن السوداء، إيّاي تعني؟ ثم أتى رسول الله(صلى الله عليه وآله)،
فقال له: لم ندخل معك لتسبّ أعراضنا، فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): (قد أقلتك إسلامك فاذهب).

فأنزل الله تعالى: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[18]، أي لستم صادقين ﴿إِنَّ اللَهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[19]، ففرغ رسول الله(صلى الله عليه وآله) من حفر الخندق قبل قدوم قريش بثلاثة أيام. وذكروا أيضاً: أنه قد بلغ طول الخندق نحواً من خمس آلاف ذراع-أي نحو ثلاث كيلو مترات- وعرضه تسعة أذرع، وعمقه سبعة أذرع[20].

مجموع الأحزاب:

تجاوز مجموع جيش المشركين عشرة آلاف رجل، في حين أن عدد المسلمين تسعمائة رجل أو أكثر، وكانوا قد جعلوا مخيمهم الأصلي أسفل جبل سلع، وكانت نقطة مرتفعة جنب المدينة مشرفة على الخندق، وكانوا يستطيعون عن طريق رماتهم السيطرة على حركة المرور من الخندق. على كل حال، فإن جيش الكفار قد حاصر المسلمين من جميع الجهات، وطالت هذه المحاصرة عشرين يوما، وقيل خمسة وعشرين يوما، وعلى بعض الروايات شهرا[21].

قال العاملي في الصحيح من السيرة: كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) أمر أصحابه أن يحرسوا المدينة بالليل، وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) على العسكر كله بالليل يحرسهم، فإن تحرك أحد من قريش نابذهم. وكان أمير المؤمنين(عليهم السلام) يجوز الخندق، ويصير إلى قرب قريش حيث يراهم، فلا يزال الليل كله قائماً وحده يصلي، فإذا أصبح رجع إلى مركزه. ومسجد أمير المؤمنين(عليه السلام) هناك معروف، يأتيه من يعرفه، فيصلي فيه، وهو من مسجد الفتح - وهو المكان الذي كان النبي(صلى الله عليه وآله) يصلي ويدعو به، خصوصاً عندما خرج الإمام علي(عليه السلام) لمقاتلة عمرو بن عبد ود، وهذا المسجد موجود الآن لكنه مهمل تماماً، وهو ضمن المساجد السبعة في المدينة المنورة- إلى العقيق أكثر من غلوة نشابة[22].

مسجد في موضع صلاة علي(عليه السلام):

وقد بقي المسجد في ذلك المكان الذي كان علي(عليه السلام) يرصد ويصلي فيه طوال الليل، بقي ذلك الشاهد الصادق على هذه التضحيات الجسام من أمير المؤمنين(عليه السلام)، وقد صمد هذا المسجد عشرات أو مئات الأعوام، وهو الآن متروك آيل إلى السقوط والهدم، ويمنعون الناس من الوصول إليه. وهذا يأتي ضمن مخطط الفئة الوهابية لمحو آثار الإسلام وبخاصة ما يتعلق بالنبي وأهل بيته(عليهم السلام)، حيث هدمت قبور أهل البيت(عليهم السلام)، وأزالت المساجد، ومحت الآثار الدالة على جهاد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وجهاد وصيه(عليه السلام)، والشاهدة على تضحيات الأخيار من أصحابه.

علي(عليه السلام) يسد طريق الهرب:

وذُكر أنه لما عبر عمرو بن عبد ود ومن معه الخندق أمر النبي(عليه السلام) علياً(عليه السلام)، بأن يمضي بمن خف معه ليأخذ الثغرة عليهم، وقال(صلى الله عليه وآله): (فمن قاتلكم عليها فاقتلوه)[23].

فخرج(عليه السلام) في نفر من المسلمين حتى أخذ الثغرة، وسلمها إليهم، فوقف عمرو، وطلب البراز، فلم يبرز إليه أحد من المسلمين، وخافوا منه خوفاً شديداً، لما يعرفون من شجاعته وفروسيته، وكان يعد بألف فارس، وطلب الإمام عليٌّ(عليه السلام) من النبي(صلى الله عليه وآله) أن يأذن له بمبارزته فلم يأذن له، فكرر عمرو النداء، وأنشد الشعر، وعيَّر المسلمين المحجمين عنه، فطلب الإمام(عليه السلام) الإذن مرة أخرى فلم يأذن له الرسول(صلى الله عليه وآله)، فلما كان في المرة الثالثة، ولم يبادر إلى ذلك سوى علي(عليه السلام) أذن له النبي(صلى الله عليه وآله) ودعا له، وأعطاه سيفه ذا الفقار وألبسه درعه وعممه بعمامته وقال: (اللهم أعنه عليه)[24].

وفي رواية أنه(صلى الله عليه وآله) رفع عمامته إلى السماء وقال: (إلهي أخذت عبيدة مني يوم بدر وحمزة يوم أحد وهذا علي أخي وابن عمي فلا تذرني فردا وأنت خير الوارثين)[25]، فبرز إليه علي(عليه السلام)
وهو يقول:

لا تعجلــــن فقــــــد أتا          ك مجيب صوتك غير عاجز

ذو نيـــــة وبصــــــيرة          والصدق منجي كل فائــــز

إني لأرجو أن أقـــــــيم          علــيك نائـــحة الجنــــــائز

من ضربة نجــــــلاء يبـ        قي صيتها بعد الهـــــزاهز

فقال له عمرو: من أنت؟ قال أنا علي، قال ابن من؟ قال ابن عبد مناف، أنا علي بن أبي طالب، فقال غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو أشد منك فانصرف فاني أكره أن أهريق دمك، فإن أباك كان لي صديقا وكنت له نديما، قال علي(عليه السلام): لكني والله ما أكره أن أهريق دمك فغضب، وفي رواية أنه قال: (إني لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك فارجع وراءك خير لك)[26].

قال ابن أبي الحديد: (كان شيخنا أبو الخير يقول إذا مررنا عليه في القراءة بهذا الموضع: والله ما أمره بالرجوع إبقاءً عليه بل خوفاً منه فقد عرف قتلاه ببدر وأُحد وعلم أنه إن ناهضه قَتَلَه فاستحيا أن يظهر الفشل فأظهر الإبقاء والارعاء وأنه لكاذب فيهما)[27].

وقال(صلى الله عليه وآله): (برز الإيمان كله إلى الشرك كله)[28]، فبارزه علي(عليه السلام) فقتله، وقتل ولده حسلاً، ونوفل بن عبد الله، وفر الباقون.

الأوسمة الإلهية:

قال(صلى الله عليه وآله): (ضربة علي يوم الخندق تعدل (أو أفضل من) عبادة الثقلين إلى يوم القيامة)[29].

وقال السيد محسن الأمين: (أقل نظرة يلقيها الإنسان على تلك الحال توصله إلى اليقين بأن ضربة علي يومئذ أفضل من عبادة الجن والأنس والملائكة وملايين من العوالم أمثالهم لو كانت سواء أجاء الحديث بذلك عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أم لم يجئ ومتى احتاج النهار إلى دليل، ولولا تلك الضربة لما عُبد الله بل عبدت الأوثان، وقد يسال سائل هنا فيقول: لما عبر عمرو والأربعة معه الخندق لماذا لم يقم إليهم المسلمون فيقتلوهم وهم خمسة نفر والمسلمون كثيرون يفوقونهم عددا والمشركون يصعب عليهم إنجادهم لوجود الخندق؟

والجواب: أن المسلمين كان قد استولى عليهم الخوف والهلع وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وذهبت بهم الظنون، وكان عبور المشركين من ثغرة الخندق غير مأمون ولذلك بدر علي قبل قتله عمرا إلى الثغرة مع جماعة فحماها وقد كادت نفوس الذين معه تطير جزعا كما مر ورجع بعد قتل عمرو فحماها أيضاً)[30].

قال الشيخ المفيد: (وكان قتل علي(عليه السلام) عمرا ونوفلا سبب هزيمة المشركين، وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) بعد قتله هؤلاء النفر: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا)، وذلك قوله تعالى: ﴿وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيّاً عَزِيزاً﴾، وروى علي بن الحكيم الأودي قال سمعت أبا بكر بن عياش يقول: لقد ضرب علي ضربة ما كان في الإسلام أعز منها -يعني ضربه عمرو بن عبد ود- ولقد ضرب(عليه السلام) ضربة ما ضرب في الإسلام أشأم منها يعني ضربة ابن ملجم)[31].

 


[1]     سورة آل عمران: آية173.

[2]     الخصال، الشيخ الصدوق: ص368، وبحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج20، ص244.

[3]     سورة الأحزاب: آية10.

[4]     سورة الأحزاب: آية10.

[5]     سورة الأحزاب: آية11.

[6]     سورة الأحزاب: آية25.

[7]     مجمع البيان، الشيخ الطبرسي: ج8، ص133.

[8]     الغدير، الشيخ الأميني: ج7، ص212.

[9]     الاحتجاج، الشيخ الطبرسي: ج1، ص136.

[10]    زاد المعاد، العلامة المجلسي: ج1، ص305.

[11]    المصدر السابق.

[12]    سورة البقرة: آية9.

[13]    بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج20، ص209.

[14]    سورة المائدة: آية82.

[15]    تفسير القمي، علي بن ابراهيم القمي: ج2، ص177.

[16]    تفسير البرهان، السيد هاشم البحراني: ج5، ص122.

[17]    سورة الحجرات: آية17.

[18]    سورة الحجرات: آية17.

[19]    سورة الحجرات: آية18.

[20]    راجع تفسير القمي، علي بن ابراهيم القمي: ج2، 177، وتفسير البرهان، السيد هاشم البحراني: ج5، ص122وغيرهما.

[21]    بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج20، ص228.

[22]    الصحيح من سيرة النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله)، السيد جعفر مرتضى العاملي: ج4، ص9.

[23]    مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب: ج1، ص198.

[24]    إحقاق الحق، التستري: ج8، ص371.

[25]    أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين: ج1، ص390.

[26]    بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج39، ص6.

[27] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج19، ص64.

[28] شواهد التنزيل، الحسكاني: ج2، ص66.

[29]    راجع النصوص التي تشير إلى ذلك في: بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج36، ص165، كنز العمال، المتقي الهندي: ج12، ص219، وتاريخ بغداد، الخطيب البغدادي: ج13، ص19، ومناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب: ج3، ص138، وغيرها الكثير.

[30] أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين: ج1، ص265.

[31] الإرشاد، الشيخ المفيد: ج1، ص105.