قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)
ذكر جَلّ وعلا في هذه الآية الكريمة: إن من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الفردوس: أنهم راعون لأماناتهم وعهدهم، أي: محافظون على الأمانات، والعهود.
والأمانة هي: أداء ما ائتُمِن عليه الإنسان من الحقوق، وهي ضد الخيانة، وهي من أنبل الخصال، وأشرف الفضائل.
والأمانة تشمل: كلما استودعك الله، وأمرك بحفظه، فيدخل فيها حفظ جوارحك من كل ما لا يرضي الله، وحفظ ما ائتمنت عليه من حقوق الناس.
والعهد: التزام بين اثنين أو أكثر على شيء يُعامِل كل واحد من الجانبين الآخر به، وسُمِّي عهدا لأنَّهما يتحالفان بعهد الله، أي: بأن يكون الله رقيبا عليهما في ذلك، والعهود أيضاً تشمل: كلما أُخِذ عليك العهد بحفظه، من حقوق الله، حقوق الناس.
وقوله: (رَاعُونَ) جمع تصحيح للراعي، من رعى يرعى، والمصدر الرعاية، والراعي هو القائم على الشيء، بحفظ أو إصلاح، كراعي الغَنَم وراعي الرَّعية، وفي الحديث: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.......الحديث[1].
فَرِعاية الأمانة: حِفظُها، ولما كان المراد من حفظ الأمانة الحفاظ عليها في المدة التي يحددها صاحبها، لا مطلقا كان من المناسب والمكمل لغاية الأمانة أن تُرد إلى مالكها الأصلي بعد ذلك أو عند مطالبته.
ورعاية العهد استعمال مجازي المراد منه: ملاحظته عند كل مناسبة.
والجمع في الآية المباركة بالعطف بين رعاية الأمانات ورعاية العهد، لأن العهد الرباني المتمثل بأحكامه، من جملة الأمانات التي كُلِف الناس بالمحافظة عليه في سلوكهم وتصرفهم، إذ أن الذي عاهدك قدا ئتمنك على الوفاء بما يقتضيه ذلك العهد، ويشير إليه جمع الأمانات وإفراد العهد.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من حفظ الأمانات والعهد جاء مبينا في آيات كثيرة كقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)[2]، وقوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً)[3]، وقوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ)[4].
وهكذا الروايات الشريفة بيّنت ما تضمنته هذه الآية الكريمة، فقد ورد عن النّبيّ (صلى الله عليه وآله): لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له، ولا صلاة لمن لا يتم ركوعها وسجودها[5].
وعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: أُقسم لسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول لي قبل وفاته بساعة مراراً ثلاثاً: يا أبا الحسن أدِّ الأمانة إلى البرّ والفاجر في ما قلّ وجلَّ حتّى في الخيط والمخيطِ[6].
وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام): عليكم بأداء الأمانة فو الّذي بعث محمّداً (صلى الله عليه وآله)
بالحقّ نبيّاً لو أنّ قاتل أبي الحسين بن عليّ (عليه السلام) ائتمنني على السيف الّذي قتله به لأدّيته إليه[7]، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): إنّ الله عزّ وجلّ لم يبعث نبيّاً إلّا بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر[8].
وعنه (عليه السلام): لا تغتروا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإن الرجل ربما لهج بالصلاة [اللهج بالشيء: تكراره] والصوم حتى لو تركها ستوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة[9].
وعنه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ليس منا من أخلف الأمانة[10].
فالمؤمنون هم الأمناء على ما اؤتمنوا عليه، والمراعون الحافظون لما استحفظوا عليه، وكل شيء يتمتع به هؤلاء الناس هو أمانة، فجميع النعم المادّيّة والمواهب المعنويّة الإلهيّة على الإنسان في بدنه ونفسه هي أمانات إلهيّة بيد الإنسان.
فالأموال والثروات المادّيّة والمقامات والمناصب الاجتماعية والسياسيّة هي أمانات بيد النّاس، ويجب عليهم مراعاتها وحفظها وأداء المسؤوليّة تجاهها.
والأولاد أمانة أيضاً بيد الوالدين، والطلاب أمانة بيد المعلِّمين، والكائنات الطبيعيّة أمانة بيد الإنسان لا ينبغي التفريط فيها.
وقد أطلقت الآيات القرآنيّة الأمانة أيضاً على التكاليف الإلهيّة، يقول تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)[11].
فالمقصود من الأمانة الإلهيّة هي المسؤوليّة والتكليف الملقى على عاتق الإنسان حيث لا يتيسّر ذلك إلّا بوجود العقل والحريّة والإرادة، ولذلك فهذا التعبير يصدق أيضاً على كل تكليف من التكاليف التي أمرنا بها، لذلك أطلقت الروايات الأمانة على الصلاة، فقد ورد عن الإمام عليّ (عليه السلام) عندما سُئِل عن سبب تغيّر حاله وقت الصلاة، قال: جاء وقت الصلاة، وقت أمانة عرَضها الله على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها[12].
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قائلاً للأشعث بن قيس: وإنّ عملك ليس لك بطعمه ولكنّه في عنقك أمانة[13].
وفي الحديث النبويّ: إنّ المجالس بالأمانات[14]، لأنّ في المجالس أسراراً وخصوصيّات لا ينبغي إفشاؤها.
والمؤمنون كما يحفظون ما اؤتمنوا عليه، فهم كذلك يحفظون ويؤدّون ما التزموا به، وعاهدوا الله والناس وأنفسهم عليه، إن للعهد والكلمة التي يقولونها والموثق الذي يعطونه، والعقد الذي يعقدونه قيمة وقدراً وغاية يحافظون عليها، لأنّه اعتبار صنعوه بمحض إرادتهم، والتزام قطعوه على أنفسهم بخالص اختيارهم، وهم يحترمون إرادتهم والكلمة التي تصدر عنهم. فهم بهذه المبادئ يمثّلون صيغة الإنسان الاجتماعي المتسامي الذي يحفظ الحقوق، ويعرف قيمة الأشياء ويؤدّي الواجبات ويستطيع بناء المجتمع الإنساني المتحضّر.
وهنا بعض النقاط التي ينبغي ممارستها لاكتساب صفة الأمانة
1- تعويد النشئ على تعظيم مكانة الأمانة في نفوسهم منذ الصغر.
2- أن يتذكر الإنسان المسؤولية الملقاة على عاتقه بالتكليف، والموقف أمام الله يوم القيامة، لإيقاظ النفس من غفلتها عن أهمية أداء الأمانة والتي سيسأل عنها يوم القيامة.
3- السعي لحسن الذكر في الدنيا، وعظيم الأجر في الآخرة بفضل الله ثم بالتحلي بالأخلاق الحميدة ومنها الأمانة.
4- تذكر عاقبة الخيانة وأنها دليل على النفاق.
5- الاستفادة من سيرة السلف الصالح وحالهم مع الأمانة.
إنّ من أهمّ فوائد التعود على أداء الأمانة على المستوى الاجتماعي، هي مسألة كسب ثقة النّاس واعتمادهم على الشخص، إذ أن الحياة الاجتماعية مبنيّة على أساس التعاون والثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع، فلولا وجود الثقة بين الأشخاص واعتماد كل طرف على الآخر، لاضطرب نظام الحياة المدنية واختلت معائشهم، ولحلّ التنافر بدلاً من التكاتف والتعاون والتعامل الإنساني.
ثمّ إنّه إذا سادت الأمانة في المجتمع فإنّها ستكون سبباً لمزيد من الهدوء والسكينة الفكريّة والروحيّة، لأنّ مجرّد احتمال الخيانة يُسبّب القلق والخوف للأفراد بحيث يعيشون حالة من الإرباك في علاقاتهم مع الآخرين ومن الخطر المحتمل الّذي ينتظر أموالهم.
من هنا جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أسباب صيانة الأمّة الإسلاميّة أداء الأمانة قال (صلى الله عليه وآله): لا تزال أمّتي بخير ما تحابّوا وتهادوا وأدّوا الأمانة واجتنبوا الحرام ووقّروا الضيف وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فإذا لم يفعلوا ذلك ابتلوا بالقحط والسنين[15].
ثمّ إنّه من عُرِف بالأمانة والصدق كَثُر من يتعامل معه في تجارته ومعاملاته ممّا يؤدّي إلى تضاعف رزقه، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أداء الأمانة يجلب الرزق، والخيانة تجلب الفقر[16].
وقال لقمان لابنه: يا بُنيّ، أدِّ الأمانة تسلم لك دنياك وأخرتك، وكُن أميناً تكن غنيّاً[17].
مجلة بيوت المتقين العدد (7)
[1] بحار الأنوار ج72 ص38، كنز العمال ج6 ص30، مجموعة ورام ج6 ص6.
[2] النساء: 58.
[3] الإسراء:34.
[4] النحل:91.
[5] نوادر الراوندي، ص5.
[6] بحار الأنوار، ج74، ص273.
[7] أمالي الصدوق: ص149.
[8] أصول الكافي، ج 2، ص 104ح1.
[9] أصول الكافي، ج 2، ص 104 ح2.
[10] الوافي ج 3 ص 82.
[11] سورة الأحزاب: 72.
[12] نور الثقلين، ج4، ص 313.
[13] نهج البلاغة، الرسالة 5.
[14] الاحتجاج، ج2، ص163.
[15] بحار الأنوار، ج 72، ص 115.
[16] الوافي ج10 ص112.
[17] معاني الأخبار: 253/1.