قال تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ)[1]، وقال تعالى: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)[2].
ظاهر هذه الآيات الكريمة أَن الهداية والضلال أَمرٌ ربّانيٌّ كالمرض، لا دخل للإِنسان في حصوله واكتسابه، بدليل أَن اللهَ تعالى نسب هذينِ المعنيينِ إِلى نفسه.
ولا يمكن التصديق بهذا الظاهر لأَنهُ يتعارض مع العدل الإِلهي، باعتبار أَن الله تعالى يعاقب الضالين، ويثيب المهتدين، والعقوبة على أَمرٍ خارج عن الاختيار والقصد يُعدُّ ظلماً واضحاً، والظُّلم محالٌ على اللهِ تعالى.
إِذن: لابد من بيان معنى آخر يحل هذا التعارض، ويوضّح المراد من هاتين الآيتين الكريمتين وما شابههما.
والحلُّ يكمُنُ في تَقسيمِنا للهداية إِلى: الهدايةِ العامة التوفيقية والهداية الخاصة، وإليكم تفاصيل القسمين:
أَولاً: الهداية العامة التوفيقية: وهي التي تعم جميع الناس، وهي التي يكون فيها اختيار الإِنسان هو الذي يتسبب فيها، وتتمثل في توضيح الطريق الصحيح، وبيان المنهج الحق، وإراءة الخير والبر عن طريق بعث الأَنبياء والرسل والأَوصياء، وجميع ما يدلُّ على عظمةِ الخالقِ وولايتهِ على النَّاس.
وهذا النوع من الهداية غير لازم الحصول، فقد لا يحصل لجميع الناس، لأَنه كما قلنا إنه أَمرٌ اختياري، تتدخل إِرادة الإِنسان في تحقُّقهِ وإِيجاده، ولذا يمكن تصوير هذه الهداية:
بأَنها توفير الأَدوات والظروف المُساعِدة على الهداية، ويبقى الإِنسان بالخيار، قال تعالى: (إِنَّا هَدَينَٰهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرا وَإِمَّا كَفُورًا)[3]، وقال الله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[4].
ثانياً: الهداية الخاصة: تختص هذه الهداية بمجموعة من الأَفراد دون عامة الناس، وهم الذين استضاؤوا بنور الهداية العامة، فيختصهم الله تعالى في موارد الرحمة والعطف والتوفيق الخاص، ويسددهم من مزالق الحياة إِلى سبيل النجاة، وقد أَخبر الله تعالى أَن هذه الفئة من الناس (أَصحاب الهداية الخاصة) حصلوا عليها بعد اختيارهم للهداية العامة، واستجابتهم لِماَ دعاهم إِليه الباري عز وجل، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)[5].
وقال تعالى: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا)[6]، فإِنهم بعد أَن اهتدوا وآمنوا بالهداية العامة، وهبهم اللهُ تعالى الهداية الخاصة.
هذا كله في معنى الهداية، وأَما الضلال فهو مقابل الهداية، ويجري فيه نفس الكلام المتقدم، فاللهُ تعالى عندما ينسب لنفسه أَنه يُضلُّ الإِنسان، فمعناهُ: أَنَّ ذلك الإِنسان لم يخترْ لنفسه الهدايةَ، وفرّط في الطريق والأَدوات التي سخّرها الله له، فيُمنَعُ عنه التسديد، ويُسْلَبُ عنه التوفيق، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا)[7].
النتيجة: وينتج مما تقدم أَن الآيات الكريمات التي تحدثت عن الضلال المنسوب إِلى الله تعالى، تكون إِما مسبوقة أَو مقترنة بما يدّل على الكفر أَو الفسوق أَو الإِلحاد أَو الظلم، أو غير ذلك من المعاني، كقوله تعالى: (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)[8]، وقوله تعالى: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ)[9].
مجلة اليقين العدد (27)