الإنفاق المقبول

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[1]

التفسير:

الآية السابقة بينت أهمية الإنفاق في سبيل الله بشكل عام، ولكن هذه الآية بينت بعض شرائط هذا الإنفاق ويستفاد ضمنا من عبارات هذه الآية أن الإنفاق هنا لا يختص بالإنفاق في الجهاد.

تقول الآية: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا... وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، حيث يستفاد وبوضوح من هذه الآية أن الإنفاق في سبيل الله لا يكون مقبولاً عند الله تعالى إذا تبعته المِنّة وما يوجب الأذى والألم للمعوزين والمحتاجين، وعليه فإن من ينفق ماله في سبيل الله ولكنه يمن به على من ينفق عليه، أو ينفقه بشكل يوجب الأذى للآخرين فإنه في الحقيقة يحبط ثوابه وأجره بعمله هذا.

إن ما يثير الاهتمام أكثر في هذه الآية هو أن القرآن لا يعتبر رأسمال الإنسان في الحياة مقتصرا على رأس المال المادي، بل يحسب حساب رؤوس الأموال المعنوية والاجتماعية أيضاً.

إن من يعطي شيئا لأحد ويمن عليه به؛ أو يقوم بما يثير الألم في نفس المُعطى ويجرح عواطفه فإنه لا يكون قد أعطاه شيئا في الواقع؛ لأنه إذا كان قد أعطاه رأسمال، فإنه قد أخذ منه رأسمال أيضاً، بل لعل المِنّة التي يمن بها عليه، ونظرة التحقير التي ينظر بها إليه، ذات أضرار باهضة يفوق ثمنها ما أنفقه من مال.

كذلك إذا لم ينل أمثال هؤلاء الأشخاص أي ثواب على إنفاقهم هذا فهو أمر طبيعي وعادل، وقد يصح القول إن هؤلاء في كثير من الأحوال هم المدينون لا الدائنون لأن كرامة الإنسان أغلى بكثير من أي مال وثروة.

ولاحظ في الآية إن كلمتي المن والأذى مسبوقتان ب‍ــ (ثُمَّ) التي تفيد التراخي، أي: وجود فترة زمنية بين فعلين، فيكون معنى الآية: إن الذين ينفقون، وبعد ذلك لا يمنون على أحد ولا يؤذون أحداً يكون ثوابهم محفوظا عند الله.

ويعني هذا ضرورة الابتعاد عن المن والأذى لا في حالة الإنفاق فحسب، بل عليه أن لا يمن عليه في أوقات تالية عن طريق تذكير المنفق عليه وبالإنفاق وهذا دليل على الدقة المتناهية التي يبتغيها الإسلام من الخدمات الإسلامية الخالصة.

ولابد من القول إن المن والأذى اللذين يحبطان قبول الإنفاق لا يختصان بالإنفاق على الفقراء فقط، بل تجنبهما لازم في جميع الأعمال العامة والاجتماعية كالجهاد في سبيل الله والأعمال ذات المنفعة العامة التي تتطلب بذل المال.

(لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)، تطمئن هذه الآية المنفقين أن أجرهم محفوظ عند الله لكي يواصلوا هذا الطريق بثقة ويقين، فما كان عند الله باق، ولا ينقص منه شيء، بل أن كلمة (رَبِّهِمْ) قد تشير إلى أن الله تعالى سيزيد في أجرهم وثوابهم.

(وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، يذكر المفسرون إن الخوف يكون من المستقبل، والحزن على ما مضى، وعليه فإن المنفقين بعلمهم أن جزاءهم محفوظ عند الله لن ينتابهم الخوف من يوم البعث الآتي، ولا هم يحسون بالحزن على ما أنفقوه في سبيل الله، وذهب البعض إلى أنه لا خوف من الفقر والحقد والبخل والغبن وأمثال ذلك ولا حزن على ما أنفقوا في سبيل الله.

وفي الحديث الشريف عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنه قال: «من أسدى إلى مؤمن معروفاً ثم آذاه بالكلام أو مَنَّ عليه فقد أبطل الله صدقته»[2].

وعنه(صلى الله عليه وآله): «ثلاثة لا يكلمهم الله: المنان الذي لا يعطي شيئاً إلا بمِنّه، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالخلف الفاجر»[3].

وعن الإمام الصادق، عن آبائه(عليهم السلام)، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: «ومن اصطنع إلى أخيه معروفاً فامتن به أحبط الله عمله، وثبت وزره ولم يشكر له سعيه، ثم قال(عليه السلام): يقول الله عز وجل: حرمت الجنة على المنان...»[4].

وعنه(عليه السلام)، عن آبائه(عليهم السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «إن الله كره لكم أيتها الأمة أربعة وعشرين خصلة ونهاكم عنها - وعد منها -: المَنّ بعد الصدقة»[5].

فالشخص الذي ينفق في سبيل الله ولم يرتكب مثل هذه الأعمال بعد ذلك لا يخشى بطلان إنفاقه، والمفاهيم الإسلامية تؤكد دقة الشريعة المقدسة في هذا المجال.

مجلة بيوت المتقين العدد (80)

 


[1] سورة البقرة: آية 262.

[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج9، ص454.

[3] وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج9، ص454.

[4] وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج9، ص453.

[5] وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج9، ص453.