حمل روحه على راحته من أجل الولاية
ولادته ونسبه وكنيته:
أبو يوسف، يعقوب بن إسحاق السكّيت الدورقي الأهوازي، والسكّيت لقب أبيه إسحاق، حيث عُرف بهذا اللقب واشتهر به.
ولد في أحد الأيام الشديدة الحرارة في محافظة خوزستان سنة 186هـ في منطقة (دورق)، وتعتبر هذه المنطقة من المراكز العلمية والثقافية الإيرانية القديمة، وهناك من يرى أن ولادته كانت في بغداد بعد هجرة والده إسحاق إليها، والذي يعتبر أستاذا في فنون الآداب العربية ولاسيما اللغة والشعر، وكان محبا للعلماء، أسس هناك كتّاباً (أي مدرسة) لتربية الصبيان، وإلى جانب تدريسه للعلوم والمعارف المتداولة كان يسعى لتنوير قلوب الصبيان بمعارف الشيعة ومفاهيمها الحقّة، وهو من أصحاب الكسائي أحد القرّاء السبعة.
وكان أبوه إسحاق أديباً فذاً وشاعراً محترفاً، إلا أن تعاليم الإسلام جعلته يؤثر السكوت على الكلام، وقد بالغ في سكوته وصمته -كما قلنا سابقاً- حتى اشتهر (بالسكيت) ولهذا سمي ولده بابن السكّيت.
النهج الرسالي لأتباع أهل البيت (عليهم السلام):
دأب أئمة الهدى (عليهم السلام) إتِّباعاً للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) واقتداء بهُداه على تربية أصحابهم وتأديبهم بل واكتشاف منابع العظمة في نفوسهم والارتقاء بهم في مدارج الكمال، فكم من حواريٍّ لإمام بموقف خلد صَدَرَ عن صَلدِ العقيدة والإيمان فغدا من الكُمَّلين معدوداً وإلى العظماء منسوباً، فما أن نذكر عمّاراً حتى نذكر الإيمان الذي ملأه فلم يفارقه، وأبا ذر الغفاري صاحب الثورة الاجتماعية والعقيدية المعروفة، حتى دفع حياته لقاء كلمات الحق فمات وحيداً في أرض الرَبَذَة، وهكذا سلمان ومالك الأشتر والمقداد وأبو حمزة الثمالي وجابر الجعفي وهشام بن الحكم وغيرهم كثير جداً، دفعوا حياتهم وأموالهم وكل ما يملكون فداءً لولائهم للأئمة(عليهم السلام)، ومن هؤلاء الأفذاذ العالم النحوي المشهور ابن السكيت وهو من أصحاب الإمامين الجواد والهادي (عليهما السلام)، والذي قتله المتوكل العباسي في الخامس من شهر رجب سنة 224هـ.
ولأجل الوقوف على أسباب الشهادة لا بد من نظرة فاحصة موجزة حول عهد هذا الطاغية العباسي ليتبين الأمر وتتضح الصورة.
محنة الشيعة في عصر المتوكل العباسي:
مرّ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم بأدوار ما بين محنة وأخرى، ولربما مرّوا بدورٍ هو ربيعٌ بالنسبة إليهم كما هو الحال إبان عهد الإمام الرضا (عليه السلام) حيث تنفسوا الصُعداء إلا أن الربيع لا يدوم وهكذا هم الشيعة ما أن تنفرج الأمور قليلاً حتى تنقلب رأسا على عقب وتدور عليهم الدوائر، فما بين معذب ومقتول وثالث سجين ورابع هارب يبتغي الأمن في بلاد أخرى لا يجرأ أن يبوح بعقائده وفكره، اشتد الأمر وعظمت المحنة في أيام المتوكل العباسي فكان بغض الإمام علي (عليه السلام) وشيعته يأكل قلبه كما تأكل النار يابس الحطب، وكان لا يذوق طعم الراحة ولعلي (عليه السلام) ذكر في الوجود ولشيعته مجتمعٌ زاهرٌ بالعلم، محتفظٌ بكرامته، مستقل بمواهبه، منفصل عن الدولة، وقد تتبّع العلويين محاولاً - بأيّ شكل من الأشكال- الحطّ من كرامة أهل البيت (عليهم السلام) ولم يسمح لأيّ أحد منهم أن يذكرهم بخير.
ويدلنا على شدّة بغضه وتحامله أن نصر بن علي الجهضمي حدّث بحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه أخذ بيد الحسن والحسين (عليهما السلام) وقال (صلى الله عليه وآله): (من أحبّني وأحبّ هذين وأباهما وأمهّما كان معي في درجتي يوم القيامة)، فأمر المتوكل بضربه ألف سوط، فكلّمه جعفر بن عبد الواحد بأن نصراً لم يكن شيعياً وإنما هو من أهل السنة، فضُرِب خمسمائة سوط وعفى عن الباقي.[1]
ويحدثنا المقريزي أن يزيد بن عبد الله أمير مصر أمر بضرب جندي تأديباً لشيء صدر منه وعندما أحس بألم الضرب أقسم على الأمير بحق الحسن والحسين (عليهما السلام) أن يعفو عنه فأمر الأمير بضربه ثلاثين سوطاً جزاء لهذا القسم وكتب إلى المتوكل في بغداد[2].
ونقلاً عن المنتظم: كانت الحكومة إذا أرادت أن تعاقب شيعياً لمذهبه لم تذكر اسم علي(عليه السلام) بل يجعل سبب العقوبة أنه بسب الشيخين، وما أكثر من عوقب بهذه الوسيلة.
وخلاصة القول أن المتوكل اشتد في العداء لأهل البيت(عليهم السلام) والنيل منهم حتى دفعه حقده إلى هدم قبر الإمام الحسين (عليه السلام) وهدم مشهده الشريف، واستقدم أبا الحسن الهادي (عليه السلام) من المدينة إلى سامراء في سنة 236هـ وعامله بالشدة والأذى، وضيّق عليه، وكان يحاول الإساءة إلى الإمام الهادي (عليه السلام) بأي شكل من الأشكال، وبين فترة وأخرى كان يرسل جلاوزته ليلاً لتفتيش داره بحجة أن هنالك سلاحاً وكتباً من شيعته، ولم يعثروا على أي شيء من ذلك وما زال الإمام الهادي (عليه السلام) مقيماً في سامراء لمدة ثمان عشرة سنة إلى أن مات مسموماً سنة 254هـ.
روايته للحديث، ومؤلفاته:
يعتبر ابن السكّيت من رواة الحديث في القرن الثالث الهجري، فقد روى أحاديث عن الإمام الجواد (عليه السلام)، وكان من علماء العربية وله فيها مؤلفات، منها: (إصلاح المنطق، الأصوات، الأضداد، تهذيب الألفاظ، ما اتّفق لفظه واختلف معناه، ما صنعه من شعر الشعراء، المذكّر والمؤنّث، المقصور والممدود).
أشعار ابن السكّيت:
لقد كان لهذا العالم الجليل دوره المشهود في ازدهار النهضة الأدبية ونظم الأشعار العربية منذ منتصف القرن الثاني الهجري حتى أواخر القرن الثالث إلى جانب جمعها في مدن البصرة والكوفة وبغداد.
وإليه يعود الفضل في جمع دواوين الشعراء القدماء من قبيل أمرؤ القيس وزهير بن أبي سلمى والنابغة الذبياني والأعشى وعنترة بن شداد وطرفة بن العبد وعمرو بن كلثوم والتي تعد من نفائس الأشعار العربية، وذكر ابن النديم 30 شاعرا قام ابن السكّيت بجمع دواوينهم.
ولم يقتصر هذا الأديب العملاق على جمع الدواوين فحسب، بل تناول بعضها بالشرح والتوضيح، وقلما يورد بعض الدواوين دون شرح أو تعليق، نعم لقد أنقذ هذا الأديب الشيعي العظيم هذا التراث الضخم من الانهيار والزوال، وإليك هذا النموذج من أشعاره.[3]
إذا اشتملتْ على الياس القلوب وضاق لما به الصدر الرحيب
واوطنت المكاره واستــقـــرّت وأرسَت في أماكنها الخطوب
ولم تر لانشكـاف الضر وجــها ولا أغنى بحيلته الأريـب
أتاك على قنوط مـــنك غـوث يمن به اللطيف المستجيب
ولكل الحادثات إذا تــــناهت فموصول بها فرج قـريـب [4]
مكانته العلمية وأقوال العلماء فيه:
كان لابن السكّيت إلى نشاطاته الملحوظة في النحو واللغة، وكان عالمًا بالقرآن والنحو على مدرسة الكوفيين، ومن أعلم الناس باللغة والشعر.
وكان شديد التمسّك بالسُّنة النبوية، والعقائد الدينية، فقام بجمع الروايات ونقلها مع اهتمامه بجمع الشعر العربي وتدوينه.
قال الشيخ النجاشي (قدس سره): (يعقوب بن إسحاق السكيت أبو يوسف كان متقدماً عند أبي جعفر الثاني وأبي الحسن (عليهما السلام) وله عن أبي جعفر (عليه السلام) رواية ومسائل، وقتله المتوكل لأجل التشيع، وأمره مشهور وكان وجهاً في علم العربية واللغة ثقة مصدقاً لا يطعن عليه)[5].
وقال السيّد علي البروجردي (قدس سره): (وهو من أجلّاء الشيعة وأصحاب الأئمّة).[6]
وقال الشيخ عباس القمّي (قدس سره): (كان ثقة جليلاً من عظماء الشيعة).[7]
وقال السيّد محسن الأمين (قدس سره): (كان علَماً من أعلام الشيعة وعظمائهم وثقاتهم، ومن خواص الإمامين محمّد التقي وعلي النقي (عليهما السلام)، وكان حامل لواء الشعر والأدب والنحو واللغة في عصره).[8]
سبب شهادة ابن السكيت رضوان الله عليه:
روي أنّ المتوكّل العبّاسي كان قد ألزمه تأديب ولديه - المعزّ والمؤيّد - فقال له يوماً: أيّما أحبّ إليك، ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ فأجابه: والله إنّ قنبر خادم علي بن أبي طالب (عليه السلام) خير منك ومن ابنيك. فأمر المتوكّل جلاوزته من الأتراك، أن يسلّوا لسانه من قفاه، فأخرجوا لسانه من قفاه، فمات شهيدا (رضوان الله عليه) وكان ذلك في الخامس من رجب سنة 244هـ[9].
وقيل: إن المتوكل أمر الأتراك فداسوا بطنه حتى مات[10].
ومن العجب أنّه نظم هذين البيتين قبل قتله بأيّام:
يُصاب الفتى من عثرةٍ بلــسانه وليس يُصاب المرء من عثرة الرِجْل
فعثرته في القول تُذهِب رأســه وعثرته في الرِجْل تبرأ في مهل[11]
الوجه في ترك التقية:
نقل الشيخ عباس القمي عن المجلسي الأول (رحمه الله) أنه قال: إعلم أن أمثال هؤلاء الأعلام كانوا يعلمون وجوب التقية ولكنهم كانوا لا يصبرون غضباً لله تعالى بحيث لا يبقى لهم الاختيار عند سماع هذه الأباطيل كما هو الظاهر لمن كان له قوة في الدين[12].
فسلام على من استشهد في نصرة أهل البيت (عليهم السلام) وإعلاء كلمة الحق ورحمة الله وبركاته.
مجلة بيوت المتقين العدد (10)
[1] تاريخ بغداد الخطيب البغدادي: ج2 ص281.
[2] تاريخ بغداد الخطيب البغدادي: ج4 ص153.
[3] البعض نسب الابيات للإمام علي(عليه السلام) كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص201.
[4] حياة الحيوان الديمري: ص328.
[5] رجال النجاشي: ص449.
[6]طرائف المقال: ج2، ص668.
[7] الكنى والألقاب: ج1، ص314.
[8] أعيان الشيعة: ج10، ص305.
[9] الكنى والألقاب عباس القمي: ج1، ص314.
[10] تاريخ الخلفاء جلال الدين السيوطي: ص139.
[11] حياة الحيوان الدميري: ج2، ص328.
[12] الاختصاص للشيخ المفيد: 341.