1- عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَالَ: (نَحْنُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ونَحْنُ نَعْلَمُ تَأْوِيلَه)[1].
2- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَالَ: (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ والأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِه (عليه السلام))[2].
3- عَنْ بُرَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَحَدِهِمَا (عليه السلام) فِي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: (وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَه إِلَّا الله والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)، فَرَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَفْضَلُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، قَدْ عَلَّمَه اللهُ عَزَّ وجَلَّ جَمِيعَ مَا أَنْزَلَ عَلَيْه مِنَ التَّنْزِيلِ والتَّأْوِيلِ، ومَا كَانَ اللهُ لِيُنْزِلَ عَلَيْه شَيْئاً لَمْ يُعَلِّمْه تَأْوِيلَه، وأَوْصِيَاؤُه مِنْ بَعْدِه، يَعْلَمُونَه كُلَّه، والَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَه إِذَا قَالَ الْعَالِمُ، فِيهِمْ بِعِلْمٍ فَأَجَابَهُمُ اللهُ بِقَوْلِه: (يَقُولُونَ آمَنَّا بِه كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا)، والْقُرْآنُ خَاصٌّ، وعَامٌّ، ومُحْكَمٌ، ومُتَشَابَهُ، ونَاسِخٌ، ومَنْسُوخٌ، فَالرَّاسِخُونُ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَه)[3].
الشرح:
قال (عليه السلام): فِي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: (وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَه إِلَّا اللهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)، التأويل: صرف الكلام عن ظاهره إلى خلاف الظاهر، من آلَ يَؤولُ، إذا رجع، وهذا الكلام يسمّى متشابهاً، و(الرّاسخون في العلم): هم الّذين ثبتوا فيه، وتمكّنوا بنور بصائرهم، وصفاء ضمائرهم.
وبعبارة أخرى: التأويل: ما آل إليه أمره، والمراد بإتباعهم للمتشابه: ابتغاء الفتنة، أن يتّبعونه، ويجمعونه؛ طلباً للتشكيك في القرآن، وإضلال العوام، كما فعله الزنادقة، والقرامطة، والطاعنون في القرآن، أو يجمعونه؛ طلباً لاعتقاد ظواهره، كما فعلت المجسّمة، جمعوا ما في القرآن والسنّة ممّا ظاهره الجسميّة، حتّى اعتقدوا أنّ الباري جل شأنه جسم، له صورة ذات وجه، وعين، وجنب، ويد، ورجل، وإصبع، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، وكلا الفريقين كافر، وأمّا من اتّبعه تأوّله من عند نفسه فذلك مختلف في جوازه والأظهر وجوب الحمل على خلاف ظاهره، وصرف تعيينه وتأويله إلى أهله، والحقّ عند أصحابنا أنّ الرّاسخين في العلم أيضاً يعلمون تأويله كما دلّ عليه هذا الخبر وغيره، ولكن كلاً بحسبه وقد ورد النهي عن التفسير بالرأي خوفا من الوقوع في الضلال فعن علي بن موسى الرضا، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الله عز وجل: (ما آمن بي من فسر برأيه كلامي، وما عرفني من شبهني بخلقي، وما على ديني. من استعمل القياس في ديني)[4].
وعنه (عليه السلام): (من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم) ثمّ قال: (إن في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن، ومتشابهاً كمتشابه القرآن، فردوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا)[5].
من هم الراسخون في العلم؟
هذا التعبير القرآني بحسب المعنى اللغوي لهذه الكلمة، فإنها تعني الذين لهم قدم ثابتة في العلم والمعرفة.
والراسخون في العلم هم النبي (صلى الله عليه وآله) وأئمة الهدى (عليهم السلام)، ولكن لا مانع أن يكون معنى الكلمة واسعا يضم جميع العلماء والمفكرين، إلا أن بين هؤلاء أفراداً متميزين، لهم مكانتهم الخاصة، ويأتون على رأس مصاديق الراسخين في العلم، وتنصرف إليهم الأذهان عند استعمال هذه الكلمة قبل غيرهم.
فقد نقل عن ابن عباس أنه قال: (أنا أيضاً من الراسخين في العلم)، إلا أن كل امرئ يتعرف على أسرار تأويل آيات القرآن بقدر سعته العلمية، فالذين يصدرون في علمهم عن علم الله اللامتناهي، لا شك أعلم بأسرار تأويل القرآن، والآخرون يعلمون جزءاً من تلك الأسرار.
الراسخون في العلم يعرفون معنى المتشابهات:
وقع الخلاف بين المفسرين والعلماء حول ما إذا كانت عبارة (الراسخون في العلم) بداية جملة مستقلة، أم أنها معطوفة على إلا الله.
وبعبارة أخرى: هل أن معنى الآية وأنه ما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم؟ أم أنه (ما يعلم تأويله إلا الله) جملة مستقلة، و(الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) جملة مستقلة أخرى؟
إن لكل فريق من مؤيدي هذين الاتجاهين أدلته وبراهينه وشواهده. أما القرائن الموجودة في الآية والأحاديث المشهورة المنسجمة معها فتقول إن والراسخون في العلم معطوفة على (الله)، وذلك:
أولاً: يستبعد كثيراً أن تكون في القرآن آيات لا يعلم أسرارها إلا الله وحده، ألم تنزل هذه الآيات لهداية البشر وتربيتهم؟ فكيف يمكن ألا يعلم بمعانيها وتأويلها حتى النبي (صلى الله عليه وآله) الذي نزلت عليه؟ هذا أشبه بمن يؤلف كتاباً لا يفهم معاني بعض أجزائه سواه!
وثانياً: كما يقول المرحوم الطبرسي في (مجمع البيان): لم يسبق أن رأينا بين علماء الإسلام والمفسرين من يمتنع عن تفسير آية، بحجة أنها من الآيات التي لا يعرف معناها سوى الله، بل كانوا جميعاً يجدّون ويجتهدون لكشف أسرار القرآن ومعانيه.
وثالثاً: إذا كان القصد هو أن الراسخين في العلم يسلمون لما لا يعرفونه، لكان الأولى أن يقال: والراسخون في الإيمان يقولون آمنا به، لأن الرسوخ في العلم يتناسب مع العلم بتأويل القرآن، ولا يتناسب مع عدم العلم به والتسليم له.
نتيجة الكلام:
أن آيات القرآن قسمان: قسم معانيها واضحة جداً، بحيث لا يمكن إنكارها، ولا إساءة تأويلها وتفسيرها، وهذه هي الآيات (المحكمات).
وقسم آخر مواضيعها رفيعة المستوى، أو أنها تدور حول عوالم بعيدة عن متناول أيدينا، كعلم الغيب، وعالم يوم القيامة، وصفات الله، بحيث إن معرفة معانيها النهائية وإدراك كنه أسرارها، يستلزم مستوى عالياً من العلم، وهذه هي الآيات (المتشابهات)، فيحتاج تفسيرها إلى رسوخ في العلم، خوفاً من الوقوع في الشبهة والضلال.
ولا شك ولا ريب أن الذين رسخوا في العلم أكثر من غيرهم، هم النبي (صلى الله عليه وآله) وأئمة الهدى (عليهم السلام)، يعلمون جميع أسرار القرآن، بينما الآخرون يعلمون منها كل بقدر سعة علمه، وهذه الحقيقة هي التي تدفع الناس، وحتى العلماء منهم، للبحث عن المعلمين الإلهيين ليتعلموا منهم أسرار القرآن.
مجلة بيوت المتقين العدد (57)