بسم الله الرحمن الرحيم
(وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)[1]
التكبر هو حالة تدعو الإنسان إلى الإعجاب بنفسه، والتعالي على الغير، بالقول أو الفعل، وهو من الأمراض الخلقية الخطرة على الإنسان، وأشدها فتكاً به، وبما انه لا شرف ولا كرامة لشيء إلا بما شرّفه وكرّمه به الله سبحانه كان التكبّر صفة مذمومة في غيره تعالى على الإطلاق، إذ ليس لما سواه تعالى إلا الفقر والمذلّة في أنفسهم، فليس لأحد من دون الله أن يتكبّر على أحد.
ذم التكبّر في الكتاب الكريم:
ورد في القرآن الكريم جملة من الآيات التي تذم التكبر والمتكبرين، منها:
قال تعالى: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)[2].
وقال تعالى: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً)[3].
وقال تعالى: (إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ)[4].
وقال تعالى: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ)[5].
ذم التكبّر في السنة الشريفة:
قال النبي (صلى الله عليه وآله): (إن أحبّكم إليّ، وأقربكم مني يوم القيامة مجلساً، أحسنكم خلقاً، وأشدكم تواضعاً، وإن أبعدكم مني يوم القيامة، الثرثارون، وهم المستكبرون)[6].
وقال الصادق (عليه السلام): (إن في السماء ملكين موكلين بالعباد، فمن تواضع لله رفعاه، ومن تكبر وضعاه)[7].
وقال (عليه السلام): (ما من رجل تكبر أو تجبر، إلا لذلة وجدها في نفسه)[8].
وعن الصادق عن آبائه (عليهم السلام): قال (مرّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على جماعة فقال: على ما اجتمعتم؟ فقالوا: يا رسول الله هذا مجنون يُصرع، فاجتمعنا عليه، فقال: ليس هذا بمجنون، ولكنه المبتلى، ثم قال: ألا أخبركم بالمجنون حق المجنون؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: المتبختر في مشيه، الناظر في عطفيه، المحرّك جنبيه بمنكبيه، يتمنى على الله جنته، وهو يعصيه، الذي لا يُؤمنُ شره، ولا يُرجى خيره، فذلك المجنون وهذا المبتلى)[9].
مفاسد التكبّر:
لهذه الصفة القبيحة بحدّ ذاتها مفاسد كثيرة، وينتج عنها مفاسد أخرى كثيرة، فالمتكبر يحيط نفسه بهالة من الزهو والخيلاء، ويُجن بحب الأنانية والظهور، فلا يُسعده إلا الملق المزيف، والثناء الكاذب، فيتعامى آنذاك عن نقائصه وعيوبه، ولا يهتم بتهذيب نفسه، وتلافي نقائصه، وهو ما يحول دون وصول الإنسان إلى الكمال هذا مضافا إلى أن المتكبر أشد الناس عُتوّاً وامتناعاً عن الحق والعدل، ومقتضيات الشرائع والأديان.
فهذه الرذيلة تجعل الانسان هدفاً لسهام النقد، وعرضة للمقت والازدراء، وهي تبعث في النفوس الحِقد والعداوة، وتحطّ من قدر الإنسان في أعين الخلق وتجعله تافهاً، وتحمل الناس على أن يُعاملوه بالمثل تحقيراً له واستهانة به، ولا يكسب الانسان من وراء التكبُّر، نتيجة دنيويّة مجديه، بل سيحصد من ورائه نتيجة معكوسة.
ويُضاف إلى ذلك أنّ مثل هذا الخُلق يوجب الذلّ في الآخرة، فكما إنّك احتقرت الناس في هذا العالَم، وترفّعت على عباد الله وتظاهرت أمامهم بالعظمة والجلال والعزّة والاحتشام، كذلك تكون صورة هذا التكبُّر في الآخرة، الهوان كما ورد في الحديث عن داود بن فرقد، عن أخيه، قال: سَمِعْتُ أبا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يقول: (إِنَّ المُتَكَبِّرينَ يُجْعَلُونَ في صُوَرِ الذَّرِّ يَتَوَطّأهُمُ النّاسُ حَتّى يَفْرَغَ اللهُ مِنَ الحِسابِ)[10].
أنواع التكبر:
1- التكبر على الله عز وجل:
وذلك بالامتناع عن الايمان به، والاستكبار عن طاعته وعبادته، وهو أقبح وأشدّ أنواع التكبّر هلكة، وتراه في أهل الكفر والجحود، ومثاله تكبُّر النمرود وفرعون وإبليس وأضرابهم من طغاة الكفر وجبابرة الالحاد، يقول فرعون لقومه: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى)[11]، (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)[12].
2- التكبُّر على أوامر الله تعالى:
وهذا يرجع إلى التكبُّر على الله سبحانه، ويظهر في بعض العاصين، كأن يمتنع أحدهم عن الحجّ بحجّة أنّه لا يستسيغ مناسكه، أو يترك الصلاة لأنّ السجود لا يليق بمقامه، أو لا يدخل المسجد لأنّه مكان الفقراء ولا يُناسبه.
3- التكبر على الأنبياء والرسل والأئمّة (عليهم السلام) والأولياء.:
وذلك بالترفع عن تصديقهم والإذعان لهم، وهو دون الأول ولكنه قريب منه، وكثيراً ما كان يحصل في زمن الأنبياء (عليهم السلام)، قال تعالى على لسان الكفَّار المتكبّرين: (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا)[13].
وقال سبحانه على لسان آخرين منهم: (وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)[14].
4- التكبر على الناس:
وهذا النوع من التكبُّر له علائم منها: أنّ المتكبِّر يتوقّع من الناس أن يبتدؤه بالسلام، وأن لا يدخل أحد إلى المجلس قبله، وأن يجلس في صدر المجلس دائماً.
ويتصوّر أنّ على النّاس أن تقف خاضعة وخاشعة أمامه، وتعظّمه عند الحديث معه، بحيث لا يرون لأنفسهم شخصيّة أمامه، ولا يتكلّمون معه من موقع الانتقاد بل حتّى من موقع النصيحة والموعظة، فعليهم أن يُعظّموه دائماً، فهو فوق الانتقاد والموعظة والتوجيه والنصيحة!!
ومن هذا التكبُّر رفض مجالسة الفقراء، والتبختر في المشي، وأقبحه التكبُّر على العلماء الأتقياء المخلصين، بحيث لا يسمع لهم قولاً ولا يقبل موعظة ونصيحة، بل يتهكّم عليهم ويستهزئ بهم.
بواعث التكبر:
الأخلاق البشرية كريمة كانت أو ذميمة، هي انعكاسات النفس على صاحبها، فهي تابعة لطيب النفس أو لؤمها، واستقامتها أو انحرافها، وما من خلق ذميم إلا وله سبب من أسباب لؤم النفس أو انحرافها.
وهنا لابدّ من التعرّف على أسباب التكبر ودوافعه حتّى يسهل على الإنسان اجتنابه، فمن دوافع التكبّر: مغالاة الإنسان في تقييم نفسه، وتثمين مزاياها وفضائلها، والإفراط في الإعجاب والزهو بها، فلا يتكبر المتكبر إلا إذا آنس من نفسه علماً وافراً، أو منصباً رفيعاً، أو ثراءً ضخماً، أو جاهاً عريضاً، ونحو ذلك من مثيرات الأنانية والتكبر، وقد ينشأ التكبر من بواعث العداء أو الحسد أو المباهاة.
عواقب التكبُّر:
إنّ لهذا الخُلق الذميم عواقب وخيمة تعرض على روح الإنسان ومعتقداته وأفكاره، وكذلك تعرض على المجتمع البشري، ويُمكن الإشارة إلى عدّة موارد منها:
1ـ التلوّث بالشرك والكفر:
لقد أدّى التكبّر بفرعون ونمرود إلى تكذيب الأنبياء (عليهم السلام) وعدم الإيمان بهم.
فعن الإمام الصادق (عليه السلام) عندما سأله الراوي عن أقَلّ درجة الإلحاد فقال له الإمام (عليه السلام): (إنّ الكبْر أدناه)[15].
2ـ الحرمان من العلم والمعرفة:
نقرأ في كلام الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم يقول: (إنّ الزرع ينبت في السَّهل ولا ينبت في الصّفا فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ولا تعمر في قلب المتكبِّر الجبّار، لأنّ الله جعل التواضع آلة العقل وجعل التكبُّر من آلة الجهل)[16].
3ـ مصدر كثير من الذنوب:
لو تأمّلنا في حالات الأشخاص الّذين يعيشون الحسد، الحرص، بذاءة اللسان، وغيرها، لرأينا أنّ أصل ومصدر جميع هذه الرذائل الأخلاقيّة هو التكبُّر.
فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (الحرص والكبر والحسد دواع إلى تقحّم الذنوب)[17].
4ـ مصدر الفرقة:
إنّ من البلايا المهمّة الّتي ترد على المتكبرّين هو الانزواء الاجتماعي وتفرّق النّاس من حولهم.
فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (ليس للمتكبِّر صديق)[18].
علاج التكبر:
وحيث كان التكبر مرضاً أخلاقياً خطيراً، فجدير بكل عاقل أن يأخذ حذره منه، ويطهّر نفسه من مثالبه، وأن يجتهد - إذا ما داخلته أعراضه - في علاج نفسه بالعلاج العلمي والعملي:
أ ـ العلاج العلميّ للتكبُّر:
1- أن يتذكر مآثر التواضع ومحاسنه، ومساوئ التكبر وآثامه، مما ورد في مدح الأول وذم الثاني من الادلة العقلية والنقلية.
2- أن يتفكّر الأشخاص المتكبّرون في أنفسهم أنّهم من هم وأين كانوا وإلى أين يذهبون وما هو مصيرهم في النهاية؟ ويتفكّرون في عظمة الله تعالى وضآلة أنفسهم.
ويعتبرون من التاريخ فيرون مصير الفراعنة والنمروديين والقارونيين والجبابرة من الملوك والأكاسرة والقياصرة.
فعن الإمام الباقر (عليه السلام): (عجباً للمختال الفخور وإنّما خلق من نطفة ثمّ يعود جيفة وهو فيما بين ذلك لا يدري ما يُصنع به)[19].
وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام): أنّه عندما وقع نزاع بين سلمان الفارسيّ وبين شخص مغرور ومتكبِّر، فقال ذلك الشخص لسلمان: من أنت؟ فقال له سلمان: (أمّا أولاي وأولاك فمن نطفة قذرة، وأمّا أُخراي وأُخراك فجيفة منتنة، فإذا كان يوم القيامة، ووضعت الموازين، فمن ثقل ميزانه فهو كريم، ومن خفّ ميزانه فهو اللئيم)[20].
وعن لقمان الحكيم: (يا بُنيّ، ويلٌ لمن تجبّر وتكبّر، كيف يتعظّم من خُلق من طين، وإلى طين يعود، ثمّ لا يدري إلى ماذا يصير، إلى الجنّة فقد فاز أو إلى النار فقد خسر خسراناً مبيناً وخاب)[21].
ويُروى عنه: (كيف يتجبّر من قد جرى في مجرى البول مرّتين)[22].
ب ـ العلاج العمليّ للتكبُّر:
أن يروض نفسه على التواضع، والتخلق بأخلاق المتواضعين، لتخفيف حدة التكبر في نفسه، وإليك أمثلة في ذلك:
أ- جدير بالعاقل عند احتدام الجدل والنقاش في المساجلات العلمية أن يذعن لمناظره بالحق إذا ما ظهر عليه بحجته، متفادياً نوازع المكابرة والعناد.
ب- أن يتفادى منافسة الأقران في السبق إلى دخول المحافل، والتصدر في المجالس.
ج- أن يخالط الفقراء والبؤساء، ويبدأهم بالسلام، ويؤاكلهم على المائدة، ويجيب دعوتهم، متأسياً بأهل البيت (عليهم السلام)[23].
مجلة بيوت المتقين العدد (33)
[1] سورة لقمان: 18.
[2] لقمان: 18.
[3] الإسراء: 37.
[4] النحل: 23.
[5] الزمر: 60.
[6] البحار: مجلد 15 ج 2 ص 209.
[7] الوافي: ج 3 ص 87.
[8] الوافي: ج 3 ص150.
[9] البحار: مجلد (15) ج 3 ص 125.
[10] أصول (الكافي، ج2، ص311، ح 11.
[11] سورة النازعات، الآية: 24.
[12] سورة القصص، الآية: 38.
[13] سورة المؤمنون، الآية: 47.
[14] سورة الزخرف، الآية: 31.
[15] حكم لقمان، محمّد الري شهري، ص160.
[16] بحار الأنوار: ج 1، ص 153.
[17] نهج البلاغة، الحكمة: 371.
[18] غرر الحكم: ح 7162.
[19] بحار الأنوار، ج 70، ص 229.
[20] بحار الأنوار: ج70، ص231، ح24.
[21] حكم لقمان، محمّد الري شهري، ص 161.
[22] حكم لقمان، محمّد الري شهري، ص 161.
[23] أخلاق أهل البيت (عليهم السلام): السيد محمد مهدي الصدر، دار الكتاب الإسلامي، ص: 36)