الكراجكي هو(أبو الفتح محمّد بن علي) عالم وفقيه شيعي وعالم في النحو والطب، قال: اجتمعت بدار العلم في القاهرة مع رجل من فقهاء العامة قد سألني بمحضر جماعة من أهل العلم.
فقال فقيه العامة: ما تقول في القياس؟ وهل تستجيزه في مذهبك أم ترى أنه غير جائز؟
فقلت له: القياس قياسان: قياس في العقليات وقياس في السمعيات، فأما القياس في العقليات فجائز صحيح، وأما القياس في السمعيات فباطل مستحيل.
قال: فهل يتفق حدهما أم يختلف؟ قلت: الواجب أن يكون حدهما واحدا غير مختلف.
قال: فما هو؟
قلت: القياس هو إثبات حكم المقيس عليه في المقيس، هذا هو الحد الشامل لكل قياس، وله بعد هذا شرائط لابد منها، ولا يقاس شيء على شيء إلا بعلة تجتمع بينهما.
قال: فإذا كان الحد شاملا للقياسين فلا فرق إذاً بين القياس الذي أجزته والقياس الذي أحلته.
قلت: بل بينهما فروق وإن شملهما الحد.
قال: وما هي؟
قلت: إن علة القياس في العقليات موجبة ومؤثرة تأثير الإيجاب، وليست كذلك في السمعيات عند من يستعمله، بل هي تابعة للدواعي والمصالح المتعلقة بالاختيار، والعلة في القياس في العقليات لا تكون إلا معلومة، وأما في السمعيات فهي مظنونة، والعلة في العقليات لا تكون الا شيئا واحدا، وفي السمعيات قد تكون مجموعة أشياء، فهذه بعض الفروق بين القياسين، وإن شملهما حدّ واحد.
قال: فما الذي يدل على أن القياس في السمعيات لا يجوز؟
قلت: الدليل على ذلك أن الشريعة موضوعة على حسب مصالح العباد التي لا يعلمها إلا الله تعالى، ولذلك اختلف حكمها في متفق الصور واتفق في مختلفها، وورد الحظر لشيء والإباحة لمثله، بل ورد الحكم في الأمر العظيم صغيراً وفي الصغير بالإضافة إليه عظيماً، فليس للقائسين فيه مجال.
فقال أحد الحاضرين: فمثّل لنا بعض ما أشرت إليه من هذا الاختلاف المباين للقياس.
قلت: هو عند الفقهاء ظاهر، ولسوف أورد منه طرفا لموضع السؤال، فمنه إن الله عزوجل أوجب الغسل من المني ولم يوجبه من البول والغائط، وليس هو بأنجس منهما، وأكثر العامة يروون أنه طاهر، وألزم الحائض قضاء ما تركته من الصيام وأسقط عنها قضاء ما تركته من الصلاة، وهي أوكد من الصيام، وجعل للرجل أن يطأ من الإماء ما ملكته يمينه ولم يجعل للمرأة أن تمكن من نفسها من ملكته يمينها، وهذا كله خارج عن سنن القياس.
قال: فما تنكر على من زعم أن الله تعالى فرق لنا بين الأصول في السمعيات وفروعها، ونصّ لنا على الأصول وعرفنا بها، وأمرنا بقياس الفروع عليها ضرباً من التعبد والتكليف ليستحق عليه الأجر والثواب.
قلت: هذا مما لا يصح أن يكلفه الله تعالى للعباد، لأن القياس لابد فيه من استخراج علة يحمل بها الفروع على الأصل ليماثل بينهما في الحكم.
قال: فإنا نجد ذلك في آيات القرآن وصحيح الأخبار، كقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)(الحشر: آية 2)، فأوجب الاعتبار وهو الاستدلال والقياس، وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما أرسل معاذا الى اليمن قال له: ((بِمَ تقضي)؟ قال بكتاب الله، قال (صلى الله عليه وآله) (فإن لم تجد في كتاب الله)؟ قال: بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال (صلى الله عليه وآله): (فإن لم تجد في سنة رسول الله)؟ قال اجتهد رأيي، فقال (صلى الله عليه وآله): (الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضاه)).
فقلت له: أما قوله تعالى الله: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) فليس فيه حجة لك على موضع الخلاف، لأن الله تعالى ذكر أمر اليهود وجنايتهم على أنفسهم في تخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ما يستدل به على حق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ونصرة الله له وخذل عدوه، وأمر الناس باعتبار ذلك وازدادوا بصيرة في الإيمان، وليس هذا بقياس في المشروعات، ولا تعويل على الظنون في إستنباط الأحكام، وأما الخبر الوارد فهو من خبر الآحاد، التي لا يثبت بها الأصول المعلومة في العبادات، ورواته مجهولون، وهم في لفظه أيضاً مختلفون، ولو سلمنا صيغة الخبر على ما ذكرت لاحتمل أن يكون معنى قوله (أجتهد رأيي) أني أجتهد حتى أجد حكم الله تعالى في الحادثة من الكتاب والسنة، وتبين أنه لا حجة لك فيما أوردته من الآية والرواية، فحار الخصم والحاضرون مما أوردت ولم يأت أحد منهم بحرف زائد على ما ذكرت.
المصدر: مجلة اليقين، العدد (8)، الصفحة (8 - 9).