تذكر أيها الإنسان أنك كنت في ساحة اللا شئ والمخلوقات كلّها تعيش وتأكل وتلعب وتنام وتتزاوج وأنت لا شيء.
ثم شاء الله تعالى أن يهبك نعمة الوجود لكن لكي تستفيد من هذه النعمة بصورة أكمل جعلها في مراحل ومراتب: فمرحلة النطفة تلك نقطة الماء التي لا يحبّها الإنسان، تخرج من مكان مستهجن حتى من ناحية اللفظ، ويحكم عليها الشرع والعرف بالنجاسة، ويصنفها ضمن القاذورات، وليس ذلك لعب ولهو، ولا هو إهمال وعبث، لكن لتنمو في داخلك في المستقبل نبتة التواضع، وبعد أن تكون فعّالاً في الحياة تعرف قدرك فلا تظلم ولا تتطاول، إنها مواد تربوية قبل أن تنفخ فيك الروح، {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} القمر: 15 .
ثم تنمو قطرةُ الماء هذه في ظلمات ودم ولحم، تتحمّل فيها الأمّ من العذاب الجسدي والألم النفسي باختيارها؛ لتحافظ على وجودك في بطنها بين أعضائها تسعة أشهر، تقاسمك طعامها وتنفرد هي بآلامها، وأنتتتنعّم بوسائد حنانها، وأنت لا حول لك ولا قوّة ولا اختيار، ذلك كي يثبت في دمك ولحمك ود الأم وبرّها، وعرفان حقها عليك، { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } الأحقاف:15
وبعد أن يأذن الله أن تخرج من سجن الظلمات الى سجن النور، لا يعطيك الله من اختيارك إلا البكاء لتعبر به عن كل المطالب والمشاعر، ويبقى العبء والتعب على الأم، يساعدها ذلك الرجل الذي يزرع الله في قلبه الحنان والرأفة لك الى حد التضحية بحياته من أجلك، فتكون أنت في كنف رجل وامرأة، في نظرهما أنت جزء من روحيهما، فيسهرا سنيناً على صحتك، وراحتك، وتربيتك حتى ينطق لسانك الصغير الكسير أول كلمة ينتظرانها منك، فتكون لهما عيداً وبهجةً وسروراً.
أخيراً شدّ الله عودك، وأورقت حياتك، وأثمرت أيامك، فهل وفيت بعد أن استوفيت؟ وهل كفيت بعد أن استكفيت؟ { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} النساء:36