يعد المسجد الوحدة العمرانية الأولى في المدينة الإسلامية، فبعد هجرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) إلى يثرب كان أول ما اتخذه (صلى الله عليه وآله) بناء المسجد الذي عرف بالمسجد النبوي، ثم بعد ذلك صار بناء المسجد الإنجاز الأول عند تمصير أي مدينة إسلامية.
وكان المسجد الثاني الذي بني في الإسلام بعد المسجد النبوي هو مسجد البصرة حيث تم بناؤه سنة 14هـ بعد البصرة على يد القائد عتبة بن غزوان، وبعد بنائه بنيت حوله المساكن والخطط، وهو أحد المساجد التي ورد الاعتكاف فيها، وهي أربعة: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد الكوفة، ومسجد البصرة.
إعمار المسجد:
كان أول مسجد خُط خارج الجزيرة العربية، ومنارته أول منارة ارتفعت في سماء العالم الإسلامي، وقد مر المسجد بمراحل عمرانية تدل على علو منزلته في نفوس البصريين:
المرحلة الأولى:
وهي مرحلة التأسيس ففي ربيع الأول عام 14هـ/ مايس 635م، اختطه نافع بن الحارث أو محجن بن الأدرع السلمي بأمر عتبة بن غزوان (مؤسس البصرة)، فبناه من القصب في مرحلة تثبت الإسلام في الأراضي المفتوحة والسعي لزيادة رقعة الفتوح.
المرحلة الثانية:
وبعد سنة 17هـ/ 638م احترقت البصرة وربما شمل الحريق المسجد أيضاً، فأعاد بناءه أبو موسى الأشعري والي البصرة وقد اتسعت المدينة اتساعاً هائلاً، فبناه بلبن وطين وسقفه بالعشب كما زاد فيه الوالي عبد الله بن عامر عام 22هـ كما قام الإمام علي (عليه السلام) بتصحيح اتجاه قبلته لأنها كانت منحرفة وذلك عام 36هـ/ 656م.
المرحلة الثالثة:
عام 45 هـ/ 656م قام والي البصرة ببنائه بناءً محكماً بالآجر والجص ووسع مساحته وسقّفه بالساج، واتخذ له أعمدة من حجر نحتها من جبال الأهواز، كما أدخلت عليه توسعات في ولاية عبيد الله بن زياد عام 54 هـ/ 673م.
المرحلة الرابعة:
عندما ولي محمد بن سيلمان بن علي سنة161هـ أيام الخليفة العباسي المهدي، رأى زيادة عدد المصلين الذين بلغ عددهم أكثر من عشرين ألف مصل حسب احصائيته، فوسعه بشراء الدور المحيطة به، وفي ولاية عيسى بن جعفر العباسي سنة185هـ/ 801م أدخلت دار الإمارة بالمسجد كما تم تسقيفه بعد أن ترك مساحة صغيرة في الوسط كانت تظلل بالأقمشة الفاخرة.
المرحلة الخامسة:
وفي ولاية شمس الدين باتكين الرومي على البصرة سنة624هـ/ 1226م في خلافة المستنصر بالله قام بإعادة بناء المسجد بالطابوق المزخرف وقطع سواريه من جبال الأهواز وجلب له الأخشاب من الهند وأنشأ رباطاً للصوفية بجانبه ومكتبة كبيرة وبنى له سبع مآذن، والأثر المتبقي والذي يمثل الركن الشمالي الغربي هو من العمارة الأخيرة هذه.
المرحلة السادسة:
وقد تمت عام 2000م وهو البناء الجديد الذي لا يتناسب مع مكانة المسجد وأهميته فالبناء الحالي هو خارج موقع المسجد القديم الذي حددت مقاييسه البالغة (195م * 135م) كما أن أسلوب البناء لا يمت بصلة لتاريخ المسجد.
زيارة الإمام علي (عليه السلام) للبصرة:
تنامت الحركة الثقافية في مسجد البصرة بعد زيارة الإمام علي(عليه السلام) لها سنة 36هـ، حيث ألقى عددا من الخطب في هذا المسجد، بعد واقعة الجمل، ثم عيّن على البصرة عبد الله بن عباس المعروف بفقهه حيث أخذ يلقي دروسا في الفقه والتفسير والأخبار فيه، وتخرج على يديه كبار التابعين منهم الحسن البصري، وتشكلت نواة مدرسة البصرة في الفقه والتفسير والأخبار والكلام، وبالإضافة لحلقات الدرس كانت تعقد مناظرات مهمة أدت بعضها لإيجاد اتجاهات فكرية جديدة، كالمناظرة بين الحسن البصري وتلميذه واصل بن عطاء، والتي أدت إلى نشوء مذهب الاعتزال، والمناظرة التي بين أبي علي الجبائي زعيم المعتزلة، وبين تلميذه أبو الحسن الأشعري والتي أدت لنشوء مذهب الاشاعرة في علم الكلام.
بقي هذا المسجد أثرا تاريخيا شاخصا وأخذ يُعرف باسم (خطوة الإمام علي (عليه السلام)، أو جامع الإمام علي (عليه السلام) بعد زيارته (عليه السلام) له.
وقد تنبأ أمير المؤمنين (عليه السلام) لمصير هذه المدينة ومسجدها حيث قال: (كأني أنظر إلى قريتكم هذه قد طبقها الماء حتى ما يرى منها إلا شرف المسجد كأنه جؤجؤ طير في لُجة بحر)[1]، وفي رواية (كجؤجؤ سفينة)، قال ابن أبي الحديد في تعليقه على كلام الإمام أعلاه: (فأما إخباره(عليه السلام) أن البصرة تغرق عدا المسجد الجامع بها، فقد رأيت من يذكر أن كتب الملاحم تدل على أن البصرة تهلك بالماء الأسود يتفجر من أرضها فتغرق ويبقى مسجدها، والصحيح أن المخبر به قد وقع، فإن البصرة قد غرقت مرتين، مرة في أيام القادر بالله، ومرة في أيام القائم بأمر الله، غرقت بأجمعها ولم يبق منها إلا مسجدها الجامع بارزا بعضه كجؤجؤ الطائر حسب ما أخبر به أمير المؤمنين(عليه السلام)، وجاءها الماء من بحر فارس من جهة الموضع المعروف الآن بجزيرة الفرس، ومن جهة الجبل المعروف بجبل السنام، وخربت دورها وغرق كل ما في ضمنها، وهلك كثير من أهلها، وأخبار هذين الغرقين المعروفة عند أهل البصرة يتناقلها خلفهم من سلفهم)[2].
مسجد الخطوة جامعة إسلامية متكاملة:
لعلنا لا نجانب الصواب إذا وصفنا جامع البصرة القديمة بالجامعة بكافة كلياتها وأقسامها، ولعلنا نصيب كبد الحقيقة إذا قلنا انفراده وتفرده على جوامع المعمورة بالجانب العلمي والأدبي مما حدا بالبصريين أن يفتخروا ويتفاخروا بمسجدهم الذي انبثت حول سواريه حلقات عدة، فحلقة للنحو حيث عرفت البصرة بمدرستها النحوية، وحلقة لتدريس اللغة، وأخرى للكلام والقضايا الفلسفية، وحلقة للتفسير، ومن بين تلك الحلقات حلقة الحسن البصري، وواصل بن عطاء، وقتاده السدوسي، ولا يعني هذا إن هذه الحلقات مقتصرة على أهالي البصرة، بل إن شهرة علماء البصرة دفعت طلبة العلم إلى المجيء إليها والتزود من علمائها.
وبجانب هذه الحلقات كانت حلقة أبي عمر العلاء والخليل الفراهيدي الذي وصف بأنه مفتاح العلوم ومعرفتها ويونس بن حبيب، أما الأصمعي فكانت حلقته في اللغة والأخبار.
استمر هذا المسجد كجامعة مصغرة يستقبل طلبة العلم من مختلف أرجاء العالم الإسلامي ويخرجهم أساطين في اختصاصات مختلفة فيعودوا إلى بلادهم، وما زال الحال حتى مجيء المغول فلحق مدينة البصرة من الدمار والخراب بسبب الفتن وانعدام الأمن ما أدى لهجرانها إلى ما يسمى بالبصرة الحديثة.
وصف جامع البصرة الكبير (مسجد الخطوة):
يرتفع الجامع القديم ارتفاعاً هائلاً قدّره الرحالة ناصر خسرو عام 447هـ/ 1055م بثلاثين ذراعا وابن بطوطة في رحلته عام 727هـ/ 1326م، إذ وصفه بالصحن لارتفاعه فقال: (وكنت قد رأيت عند قدومي عليها على نحو ميلين منها بناءً عالياً مثل الصحن فسألت عنه فقيل هو مسجد علي بن أبي طالب (عليه السلام) وكانت له سبع مآذن ومفروش بالحصباء الملونة).
وللمسجد ثمانية عشر باباً وكل باب له درجة خارجية وله اسمه الخاص مثل باب بني تميم وباب بني سليم وباب الرحبة وباب الأصفهاني وباب عثمان وكان يُنار ليلاً بالقناديل المربوطة بالسلاسل والمسترة بالزجاج وأغطية الخشب، وله قيّم خاص لإشعالها وتصليحها، ومن المرافق الأخرى (المقصورة) وهي غرفة لصلاة الوالي، (والمنبر) وصهاريج الوضوء المعروفة (بطست الجامع) الواقعة خارجه ومطلية بالقار، كما تثبت بالجدران الخارجية آلاف الحلقات التي تستخدم كمرابط للخيل.
وبعد خراب البصرة وانتقال سكانها بدت حالته مؤلمة إذ بنيت بيوت البصرة ومدينة الزبير بطابوق المسجد وأخذت سواريه لاستخدامات أخرى حتى لم يبق منه سوى جدران وأعمدة قائمة حفظتها لنا ريشة أحد الرحالة في القرن العاشر الهجري وقد رآها نيبور عام1170هـ/ 1765م ولم يبق الآن سوى الركن الشمالي الغربي منه.
وقد سمته (الليدي دراور) عام1919م (بجامع علي ذي المنارات السبع) وأطلقت على الأثر المتبقي اسم (برج السندباد) فقالت: (لم يتبق من جامع علي ذي المنارات السبع وأكبر جامع بني في الإسلام أي أثر كما لم يبق أثر أيضاً للبنايات العباسية التي بنيت بالآجر اللطيف، وهناك برج يسمى محلياً (برج السندباد) ويقع في منتصف الطريق بين البصرة والزبير).
الخاتمة
اليوم تحول المسجد إلى مزار تهفو إليه قلوب آلاف المسلمين لإحياء المناسبات الدينية ومن أبرزها واقعة كربلاء ووفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) واستشهاد الإمام علي (عليه السلام) وولادة الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وغيرها من المناسبات الدينية، حيث صار الجامع ملاذهم ومزارهم الذي يتوجهون إليه أحيانا مشيا على الأقدام من البصرة وحتى من بعض المحافظات الجنوبية.
نعم هنا تهادت خطى الإمام (عليه السلام) وباركت التراب بالقيم العلوية وحملت معها عبق الرسالة الإسلامية العظيمة وعبق النبوة وفجر الدعوة المحمدية الخالدة.
وهذه الخطوة المباركة هي الأثر الشاخص الذي يرمز إلى اللقاء التاريخي والحضور البهي الذي تباركت به البصرة...
المصدر: بيوت المتقين (11) - شهر شعبان 1435هـ