روي أن حرَّة بنت حليمة السعدية ـ وهي من المواليات لأمير المؤمنين (عليه السلام) ـ وردت على الحجّاج بن يوسف الثقفي، فلما حضرت بين يديه قال لها: أنت ابنة حليمة السعدية؟
فقالت حرَّة: فراسة من غير مؤمن!
فقال الحجاج: قيل لي إنّك تفضّلين عليّاً على أبي بكر وعمر وعثمان.
فقالت حرَّة: كذب من قال إنّي أفضّله على هؤلاء خاصّة، بل أفضّله على آدم ونوح ولوط وإبراهيم وداود وسليمان وعيسى بن مريم(عليه السلام).
فقال الحجاج: تفضّلينه على الصحابة وتزيدين عليهم سبعةً من الأنبياء، إن لم تأتيني ببينة، ضربت عنقك.
قالت حرَّة: ما أنا بمفضّلته على الأنبياء، ولكنَّ الله فضّله عليهم، بقوله في آدم: (وعَصى آدم ربّه فَغوى)[1]، وقال في عليّ(عليه السلام): (وكان سعيكم مَشكُورا)[2].
فقال الحجاج: فبم تفضّلينه على نوح ولوط؟
قالت: الله فضّله عليهما بقوله: (ضَرب الله مَثلاً للّذين كَفروا امرأة نوح وامرأة لوٍط كانَتا تَحت عَبْديِن من عِبادِنا صالِحين فَخانتاهُما فَلم يُغنيا عَنهما مِن الله شيئا وقيل ادخُلا النار مع الداخلين)[3]، وعليُّ بن أبي طالب كان ملاكه تحت سدرة المنتهى[4]، وزوجته بنت النبي (صلى الله عليه وآله) الّتي يرضى الله تعالى لرضاها ويسخط لسخطها[5].
فقال الحجّاج: فبمَ تفضّلينه على أبي الأنبياء إبراهيم خليل الله؟
فقالت: الله فضّله بقوله: (وإذْ قال إبراهيم ربِّ أرني كَيفَ تَحي الموتى قال أو لَمْ تُؤمن قال بلى ولكن ليطمئنَّ قلبي)[6]، وأمير المؤمنين (عليه السلام) قال كلمة ما قالها أحد قبله ولا بعده: «لَوْ كُشِفَ الغِطَاءُ مَا ازددتُ يَقيناً»[7].
فقال الحجاج: فبمَ تفضّلينه على موسى كليم الله؟
قالت: يقول الله سبحانه: (فَخَرجَ مِنها خائفا يترقّب)[8]، وأمير المؤمنين(عليه السلام) بات على فراش رسول الله(صلى الله عليه وآله) لم يَخَفْ، وقد أنزل الله تعالى في حقّه: (وَمِنَ الّناسِ مَنْ يشَري نفسهُ ابتغاء مَرضات الله)[9].
قال الحجّاج: فبمَ تفضّلينه على داود وسليمان؟
قالت: الله تعالى فضّله عليهما بقوله: (يا داود إنّا جَعلناك خَليفة في الأرض فاحكم بين النّاس بالحقِّ ولا تتّبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله)[10].
فقال الحجاج: ففي أيِّ شيء كانت حكومته؟
قالت: في رجلين أحدهما له كَرم والآخر له غنم، فنفشت الغنم بالكَرم فاحتكما إلى داود(عليه السلام) فقال: تُباع الغنم وينفق ثمنها على الكرم حتّى يعود إلى ما كان عليه، فقال له ولده: لا يا أبه بل يؤخذ من لبنها وصوفها، فقال الله تعالى: (ففهّمناها سليمان)[11].
وأما أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «سلوني عمّا فوق العرش، سلوني عمّا تحت العرش، سلوني قبل أن تفقدوني»[12]، وقال النبي(صلى الله عليه وآله) يوم فتح خيبر للحاضرين عنه: «أفضلكم وأعلمكم وأقضاكم عليُّ»[13].
فقال الحجاج: وبمَ تفضّلينه على سليمان؟
فقالت: الله تعالى فضّله عليه بقوله: (ربِّ هَبْ لي مُلْكَاً لا يَنْبَغي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)[14]، وأمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «طَلّقتُكِ يَا دُنْيَا ثَلاثَاً لا حَاجَةَ لي فِيكَ»[15]، فنزلت فيه: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذينَ لا يُريدونَ عُلوّاً في الأَرضِ وَلا فَسَادَاً)[16].
فقال الحجاج: فبم تفضّلينه على عيسى؟
قالت حرَّة: الله من فضّله بقوله لعيسى(عليه السلام): (.. أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ..... مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ..)[17]، فأخّر عيسى(عليه السلام) الحكومة إلى يوم القيامة، وأمير المؤمنين(عليه السلام) لما ادَّعوا النصيرية ـ طائفة من الغلاة ـ فيه ما ادَّعوه قتلهم[18]، ولم يؤخّر حكومتهم، فهذه كانت فضائله لا تقاس بفضائل غيره.
قال الحجاج: أحسنت يا حرَّة بجوابك، ولولا ذلك لقطعت عنقك، ثمَّ أكرمها وسرَّحها[19].
مجلة اليقين، العدد (37)، الصفحة (8 - 9).
[1] سورة طه: 21.
[2] سورة الإنسان: 22.
[3] سورة التحريم:10.
[4] الغدير ج 2 ص 315.
[5] الغدير ج 3، ص 20، وص 180.
[6] سورة البقرة:260.
[7] شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: ج 7، ص 253.
[8] سورة القصص:18.
[9] سورة البقرة:207.
[10] سورة ص: 26.
[11] سورة الأنبياء:79.
[12] البحار للمجلسي: ج10، ص128.
[13] البحار للمجلسي: ج 46، ص 136.
[14] سورة ص:35.
[15] البحار للمجلسي: ج 40، ص 345.
[16] سورة القصص:83.
[17] سورة المائدة:117.
[18] شرح النهج، لابن أبي الحديد: ج8، ص119.
[19] البحار للمجلسي: ج46، ص134.