الحياة مليئة بالظروف والأحداث والمواقف التي من خلالها نتعرّف على معادن الأخرين ومكانتنا عندهم، فقد نجد أشخاصاً يقفون معنا مهما اختلفت الظروف، فتزداد ثقتنا بهم، وأشخاص يبتعدون عنا في بداية الطريق وهنا نعرف أنهم غير جديرين ولا يستحقون أن يكونوا معنا.
لن يكون التداخل سهلاً ويسيراً وسلساً بين الأطراف التي تحتاج إلى التداخل فيما بينها إلا إذا بني ذلك على ثقة متبادلة بين الأطراف ولو كانت في حدودها الدنيا.
لعل أغلب حياتنا قائمة على التداخل الذي نحن بحاجة له، أو تفرضه علينا طبيعة الحياة، ومنطقها الفطري القائم، فالأب والابن والزوجان والأسرة والجيران، وأصحاب المهنة والعمل الواحد، وكل ما يربطنا بالآخرين من تداخل يحتاج إلى ثقة متبادلة كي يعطي ثماره ونتائجه.
هذه الثقة تبنى لبنة بعد أخرى، وصعوبة الحفاظ عليها لا تقل في مشقتها عن صعوبة البناء والتشييد لها. ومهمة بناء الثقة يقوم بها كل فرد من أفراد المجتمع دون استثناء، وإن كان الثقل الأكبر في القيام بها قد يوكل لهذا أو ذاك، وكما نقول – على سبيل المثال ان الوالدين عليهما الثقل الأكبر في بناء الثقة بين أفراد الأسرة.
إن تعدد الميادين وضرورة توافر عوامل الثقة في كل ميدان يحتم انخراط أعداد كبيرة من أبناء المجتمع ومن طاقاته وكفاءاته في عملية البناء والمحافظة على تلك الثقة حتى يمكن بناء أي صرح عليها.
لو نظرنا لعالمنا الإسلامي كله، شعوباً ودولاً، لرأينا أن التفكك والتمزق الذي تعيشه هذه الأمة راجع في أحد أسبابه المباشرة إلى انعدام الثقة بين مكوناته مع بعضها، وبين جهات القرار المركزية في كل دولة وقطر عربي وإسلامي مع بقية الدول التي تشاركها الإسلام. وهذا ملحوظ بيّن حين ننظر إلى واقع أمتنا الاسلامية كأمة في صفّ أمم العالم الأخرى.
لا يوجد مفكّرٌ ولا عالمٌ ولا مسيّسٌ ولا صاحب رأي إلا ويدرك أن أمتنا الإسلامية المترامية الأطراف تحتاج إلى الثقة فيما بينها لتبني على ذلك تعاونها وعزتها ورفعتها، وتحرز احترام العالم لها.
ولو أخذنا أي بلد من بلاد المسلمين فإن العقل يدعو أهلها لتعزيز الثقة بين مكوناتهم الدينية والمذهبية، وبين مدارسهم الفكرية والنظرية، وبين توجهاتهم السياسية، ثم بينهم وبين دولتهم، وبينهم وبين مؤسساتها، وبينهم وبين تشعبات تلك الدولة ومختلف أنشطتها.
ما لم تعالج تلك قضية الثقة فإن الخوف والقلق والتوتر النفسي والذهني والاجتماعي سيقضي على كل خطوة مهما كانت ايجابيتها؛ لأن الهواجس ستحوطها من كل حدب وصوب، وستميتها بعد أن تفقد فاعليتها وقدرتها على الحركة والعطاء.
قضية بناء الثقة ليست سهلة ولكنها كذلك ليست ممتنعة ولا مستحيلة في أي بلد وفي أي موقع ومؤسسة، وبين أي طرف أو أطراف كانت، وحتى لو كانت فيها الكثير من الصعوبات المتداخلة والمعقدة، فإنها الخطوة الأولى التي لابد منها؛ لأن بديلها هو الظنون والهواجس، وهذه ليست أرضيات مناسبة لتشييد البناء والارتفاع به عالياً، فهي لا تتحمل سور البناء، بل تتشقق وتتفتت ويخر ما عليها ليرتطم بالأرض.