تَاجِرُوا اللهَ بِالصَّدَقَةِ
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (اذَا أَمْلَقْتُمْ فَتَاجِرُوا اللَه بِالصَّدَقَةِ) نهج البلاغة.
الإملاق، أفعال، بمعنى الافتقار، ولا يبعد أن يكون من المَلَق وهو الود واللُّطف، ويكون همزته للكثرة لان الفقراء يكثرون المودة والمحبة ويظهرون التلطف والملائمة للأغنياء، ويجوز أن يكون من الملقة، وهي الصفاة الملساء، فإن بواطنهم مصفاة من غمِّ الدنيا وعلائقها وظواهرهم طاهرة لمساء عن تلوث خبثها وعوائقها، فحينئذ تكون همزته للصيرورة، يعني: إذا خشيتم خشية املاقٍ فعاملوا الله تعالى بالتصدق للفقراء؛ فإن من كان معاملته مع الله تعالى يغنيه الله سبحانه بفضله وكرمه بإعطاء الخلف في الدنيا والثواب في الآخرة، قال الله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً)[1].
ولما كان يستعيض ـ طلب منه العوض ـ العبد من الله تعالى في هذه التجارة بل يأخذه منه تعالى بدليل الحديث: (الصَّدَقَةُ تقعُ في كَفِّ الرَّحْمَنِ قَبْلَأَنْ تَقَعَ في كَفِّ الفَقِير)[2]، فالآية الكريمة نزّلت الصدقة منزلة المعاوضة.
وقد أجمع المسلمون بل العقلاء على حسن الصدقة، بل حكم العقل القطعي أيضاً بحسن مساعدة الفقراء، وإنّ التعاون بين البشر، وتوجّه الأغنياء إلى الفقراء، والاهتمام بسدّ فقرهم وحاجتهم،لهي من أهم الأمور النظامية البشرية التي تحكم الفطرة العقلية بلزومه ورعايته مهما أمكن، وقد اهتمت الشرائع السماوية بذلك اهتماماً بليغاً.
وفي قول أمير المؤمنين (عليه السلام) دعوة إلى استعمال علاج نافع في حالات الحرج الاقتصادي الذي يتعرّض له كل أحد إلّا مَنْ شاء الله؛ وذلك بأن يتفقّد هذا الفقير أخاه الفقير الآخر؛ لأنه بهذا التفقّد مهما كان حجمه سيضمن به توسعة رزقه من الله تعالى الذي يحثّ على إشاعة الخير، لإسعاف المحرومين ومعاونة الإخوان؛ لأنه ما من فقير إلّا ويوجد من هو أشد منه فقراً، فإذا تفقّد الفقير ذاك الأفقر، وهذا الأفقر ذلك الذي أفقر منه، وهكذا كل حسب موقعه فحتماً ستتاح للجميع فرصة الحياة، وتتماشى الأمور بالصورة المطلوبة، ويتم تجاوز الأزمات بأحسن الحال.
ولو تأملنا شرائح المجتمع المختلفة، وعرفنا تعدد الطبقات وتعدد المهن والحِرَف وموارد الكسب ومصادر الارتزاق لوجدنا أن الصدقة أنجع دواء لحل مشكلة الفقراء التي لا يمكن أن يأتي أي نظام عالمي أو اقتصادي أو سياسي أو غيرها بحلول، أو لوائح للحد أو القضاء على هذه الظاهرة التي وجدت لعدة أسباب، منها: اختبار صبر الفقير والتزامه الديني وما شابه ذلك، ومنها: اختبار تعاطف أفراد المجتمع ومعرفة درجة التكامل الاجتماعي لدى كل فرد، وأسباب أخرى مما يشّكل تركيبة مجتمع كامل، لأنه وبحسب القوانين الطبيعية المعتادة لا يمكن أن تتكافأ الطبقات وإلّا لما صارت طبقات.
وبغض النظر عن هذا التحليل -الذي يتفاوت الاقتناع به من فرد لآخر؛ لأنه يمثّل مستوى تفكير معين- إلّا أن القران الكريم حثّ على التصدّق كثيراً وبمختلف المناسبات منها، قال تعالى: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)[3]، وقوله تعالى (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون)[4]، وقوله تعالى (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)[5]، ومنها (إنَّ اللَه يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ)[6]، وقوله تعالى: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَه قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ)[7]، وغيرها من الآيات المباركة.
وقد روي عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأئمة (عليهم السلام) الشيء الكثير من الحث والتأكيد على الصدقة وسائر شئونها مما يؤكد القناعة بضرورة الالتزام واللجوء إليها[8].
وعلى كل حال فالصَّدقةُ تعدّ للمزيد من فضل الله، وفي هذه الحكمة حث للفقراء أن يتصدّقوا بما عساه يقع في أيديهم ولو بشقّ تمرة؛ ليستعدّوا بذلك لإفاضة فضل الله، ورغَّبهم في ذلك بذكر التجارة، وهي استعارة لاستعاضة ما يحصل عمّا يبذل، والفقراء أولى باستجلاب الرزق بالصدقة من الأغنياء؛ لانفعال القلوب لهم ورقّتها عليهم، ولما يسبق إلى أذهان الخلق أنّ ذلك منهم عن إخلاص دون الأغنياء.