من نافلة القول أن هناك خلافا بين الأشاعرة والمعتزلة في مجالات ومواضيع مختلفة ومتعددة، ومن هذه المواضيع موضوع الكلام والإرادة الإلهية، والتوحيد الصفاتي والجبر والاختيار والقضاء والقدر، وقد كانت آراؤهما على الغالب تقع في طرفي الإفراط والتفريط.
ومن محاور الخلاف الأساسية بين هاتين الفرقتين، موضوع العدل الإلهي، وقد لوحظ توافق الشيعة مع المعتزلة في رأيهم حول هذا الموضوع، وأطلق عليهما مصطلح "العدلية" مقابل الأشاعرة، ولأجل أهمية هذا الموضوع، عدّ من المواضيع الرئيسة في علم الكلام، بل إنه اعتبر من أصول العقائد، ومن مميزات المذهب الكلامي للشيعة والمعتزلة.
ومن الواضح أن الدراسة التفصيلية لهذا الموضوع، والجواب عن الشبهات التي دفعت الأشاعرة لإنكار الحسن والقبح العقليين، وليمثلوا الاتجاه المعارض للعدلية، والبحث في كل ذلك طويل، يعسر التعرض له في هذا البحث، وكذلك من الممكن أن تكون في أحاديث المعتزلة بعض النقاط الضعيفة التي يلزم التعرض لها ومناقشتها في محله، ولكن أصل الاعتقاد بالحسن والقبح العقليين يتقبله الشيعة، ويؤمنون به، ويدعمه الكتاب والسنة وتأكيدات الأئمة المعصومين عليهم السلام.
إنَّ العدل في اللغة بمعنى السوية، والتسوية وفي العرف العام استعمل بمعنى رعاية حقوق الآخرين، في مقابل الظلم (الاعتداء على حقوق الآخرين)، وعلى ضوء ذلك عرف العدل في اصطلاح المتكلمين بأنه "إعطاء كل ذي حق حقه"، إذن فلابد أن نتصور أولاً موجودا له حق، لتكون رعاية حقه عدلاً والاعتداء عليه ظلماً، ولكن أحيانا يوسع مفهوم العدل، ويستعمل بمعنى "وضع الشيء في موضعه أو القيام بكل فعل على وجه حسن" وعلى وفق هذا التعريف، يكون العدل مرادفا للحكمة، والفعل العادل مساويا للفعل الحكيم.
وما يجب علينا التأكيد عليه هنا: هو أن كل عاقل يدرك بأن أي واحد لو اختطف قطعة خبز من طفل يتيم، وبدون مبرر، أو أنه أراق دم إنسان بريء فقد ارتكب ظلما واقترف عملا قبيحا، وعلى العكس من ذلك، لو أخذ واحد قطعة الخبز المختطفة من يد الغاصب وأعادها إلى الطفل اليتيم، أو أنه اقتص من القاتل الجاني، بإقامة حد القتل عليه، فإنه قد عمل عملا حسنا وصائبا، ولا يعتمد هذا الحكم بالحسن والقبح أو العدل والظلم، على الأمر والنهي الإلهي، فإن هذا الحكم يحكم به حتى من لا يؤمن بوجود الله.
إذن يمكن أن يُتصور للعدل مفهومان، خاص وعام أحدهما: رعاية حقوق الآخرين، والثاني: صدور الفعل على وجه الحكمة، بحيث تعدّ رعاية حقوق الآخرين من مصاديقه، وعلى ضوء ذلك فلا يلازم العدل، القول بالتسوية بين البشر جميعا، أو بين الأشياء كلها، فليس المعلم العادل من يتخذ موقفا واحدا من جميع طلابه، فيساوي بين الجميع في التأنيب أو التشجيع سواء المجد من طلابه والكسول، وليس القاضي العادل هو الذي يقسم المال المتنازع عليه بين المتخاصمين، بل إن المعلم العادل هو الذي يُشجِّع كل طالب أو يؤنبه بمقدار ما يستحقه، والقاضي، العادل هو الذي يوصل المال المتنازع فيه إلى صاحبه، وكذلك، فإنَّ مقتضى الحكمة والعدل الإلهي، لا يعني خلق المخلوقات بصورة متساوية، فيخلق مثلا للإنسان القرون، أو الأجنحة أو غيرها، بل إن مقتضى حكمة الخالق أن يخلق العالم بصورة تترتب عليها أكثر ما يمكن تحققه من الخير والكمال، وأن يخلق المخلوقات التي تشكل أجزاءه المترابطة بصورة تتناسب وذلك الهدف النهائي وكذلك مقتضى الحكمة والعدل الإلهي، أن يكلف كل إنسان بمقدار استعداده وقابليته (َلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)[1]، وأن يقضي ويحكم فيه على حسب قدرته، وجهده الاختياري (فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[2]، وأن يجازيه ثوابا أو عقابا يتلاءم وأفعاله.
وأما الدليل على العدل الإلهي فإنه - أي العدل الإلهي - يعدّ مصداقا من مصاديق الحكمة الإلهية، وفقا لأحد التفاسير، ووفقا لتفسير آخر فإن العدل هو الحكمة الإلهية نفسها، وبطبيعة الحال يكون الدليل لإثبات العدل هو الدليل نفسه الذي يثبت الحكمة الإلهية، وتوضيح ذلك:
إنَّ الله تعالى يمتلك أسمى مراتب القدرة والاختيار، وإنه قادر على أن يفعل أي عمل ممكن الوجود أو لا يفعله، من دون أن يخضع لتأثير أية قوة تجبره وتقهره، ولكن الله تعالى لا يفعل كل ما يقدر عليه من أفعال، بل إنما يفعل الذي يريده.
إنَّ إرادته تعالى ليست عابثة جزافية، بل إنه تعالى لا يريد إلا ما يتناسب وما تقتضيه صفاته الكمالية، وإذا لم تقتض صفاته الكمالية فعلا ما، فلا يصدر منه ذلك الفعل إطلاقا، وبما أن الله تعالى هو الكمال المحض، فإرادته بالأصالة إنما تتعلق بجهة كمال المخلوقات وخيرها، وإذا لزم من وجود مخلوق حدوث بعض الشرور والنقائص في العالم، فإن جهة الشر هذه مقصودة بالتبع، بمعنى أن هذا الشر بما أنه لا ينفك عن الخير الغالب، لذلك تتعلق الإرادة بهذا الشر تبعا لتعلق الإرادة بالخير الغالب أصالة.
إذن فمقتضى الصفات الإلهية الكمالية أن يخلق العالم بصورة يتوفر في مجموعه الكمال الغالب، والخير الممكن الحصول، ومن هنا تثبت صفة الحكمة للّه تعالى.
وعلى هذا الأساس فإن الإرادة الإلهية إنما تعلقت بخلق الإنسان، لأن الإنسان ممكن الوجود في ذاته، وأن وجوده للخير الغالب، ولأكثر الخيرات، ومن المميزات الرئيسة للإنسان، اختياره، وإرادته الحرة، ولا شك بأن التوفر على قوة الإرادة والاختيار يعد من الكمالات الوجودية، حيث يعد الواجد لها أكمل من الفاقد لها، ولكن ما يلازم اختيارية الإنسان، أن يكون قادرا على ممارسة الأفعال الحسنة الخيرة التي توصله إلى كماله النهائي والأبدي، وكذلك يكون قادرا على ارتكاب الأفعال القبيحة والمنكرة، لتتجه به إلى السقوط في حضيض الخسران والشقاء الأبدي وبطبيعة الحال فما تتعلق به الإرادة الإلهية أصالة هو تكامله، ولكن بما أنه يلزم من التكامل الاختياري للإنسان، إمكان السقوط والانحطاط أيضا، والذي يحصل نتيجة الانصياع للأهواء النفسية، والنزوات الشيطانية، لذلك تتعلق الإرادة الإلهية بالتبع بهذا السقوط الاختياري.
وبهذا يتضح أن المرحلة الأولى للعدل (بالمعنى الخاص) أي العدالة في مجال التكليف، تثبت بهذا الدليل وهو: أن الله لو كلف العبد بما لا يطيقه ولا يقدر عليه فإن هذا التكليف لا يمكن امتثاله، ويكون عملا لا فائدة فيه، وأما العدالة في مجال الحكم والقضاء بين العباد، فإنها تثبت مع الالتفات لهذه الملاحظة: بأن الحكم والقضاء إنما يتم لأجل تعيين استحقاق الأفراد لأنواع الثواب والعقاب، وإذا تم على خلاف القسط والعدل، فسوف يلزم منه نقض الغرض.
وأخيراً العدالة في مجال تنفيذ المجازاة ثوابا وعقابا، فإنها تثبت بملاحظة الهدف النهائي للخلق، لأن من خلق الإنسان بهدف التوصل لنتائج أفعاله الحسنة أو القبيحة لو أثابه أو عاقبه على خلاف ما تقتضيه هذه الأفعال، فإنه لن يصل إلى هدفه.
إذن فالدليل على العدل بمعانيه الصحيحة، وفي جميع مظاهره هو: أن صفات الله الذاتية، تقتضي أن تكون أفعاله تعالى حكيمة وعادلة، ولا توجد في الله تعالى أية صفة تقتضي الظلم والجور، أو اللغو والعبث.
مجلة اليقين العدد (4)