ولادته ونشأته:
ولد المختار بن أبي عبيدة بن مسعود الثقفي (رضوان الله عليه) المكنى بأبي اسحاق في مدينة الطائف في السنة الأولى من الهجرة النبوية الشريفة، ويذكر أن والد المختار أبو عبيدة حينما أراد أن يتزوج ذكر له قومه نساءً فأبى أن يتزوّج منهنّ، فأتاه آتٍ في منامه فقال له: تزوّجْ دومةَ الحسناء الحومة، فما تسمع فيها للائمٍ لومة، فأخبر أهله، فقالوا له: قد أُمِرتَ فتزوّج دومةَ بنت وهب بن عمرو.. فلمّا حملت بالمختار قالت: رأيتُ في النوم قائلاً يقول:
أبْشِـري بالولَـدْ أشبه شيءٍ بالأسدْ
إذا الرجالُ في كَبدْ تقاتلـوا على بَلَـدْ
كان له الحَظُّ الأشدّْ
نشأ مقداماً شجاعاً يتعاطى معالي الأُمور، وكان ذا عقل وافر، وجواب حاضر، وخِلال مأثورة، ونفس بالسخاء موفورة، وفطرة تدرك الأشياء بفراستها، وهمّة تعلو على الفراقد بنفاستها، وحدس مصيب، وكفّ في الحروب مجيب، مارس التجارب فحنّكته، ولابس الخطوب فهذّبته، وأول مشاركة له مع أبيه في وقعة (قُسّ الناطف) وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وكان يتفلّت للقتال فيمنعه عمُّه سعد بن مسعود.
وكان المختار في صباه يحظى برعاية أمير المؤمنين (عليه السلام) لما كان يعلمه أنّه الآخذ بثأر ولده الحسين (عليه السلام)، فعن الأصبغ قال: (رأيت المختار على فَخِذ أمير المؤمنين وهو يمسح رأسه ويقول: يا كيّس يا كيّس) [1]
سجنه:
تُعرف في المختار شمائل النخوة والإباء ورفض الظلم، وتُرى فيه مواقف الشجاعة والتحدّي أحياناً، وهذا أشدّ ما تخشاه السلطات الأُموية، فألقت القبض عليه، وأودعته في سجن عبيد الله بن زياد في الكوفة.
وكان هذا تمهيداً لتصفية القوى والشخصيات المعارضة، والتفرّغ لإبادة أهل البيت بعد ذلك حيث لا أنصار لهم ولا أتباع.
وتقتضي المشيئة الإلهية أن يلتقي المختار في السجن بميثم التمّار ـ هذا المؤمن الصالح الذي أخذ علومه من الإمام علي (عليه السلام) ـ فيبشّره بقوله: (إنّك تفلت وتخرج ثائراً بدم الحسين (عليه السلام)، فتقتل هذا الجبّار الذي نحن في سجنه ـ أي ابن زياد ـ وتطأ بقدمك هذه على جبهته وخدّيه) [2].
ولم تَطُل الأيّام حتّى دعا عبيد الله بن زياد المختارَ من سجنه ليقتله، وإذا برسالة من يزيد بن معاوية تصل إلى ابن زياد يأمره فيها بإخراج المختار من السجن، وذلك أنّ أُخت المختار صفية بنت أبي عبيد كانت زوجة عبد الله بن عمر، فسألت زوجها أن يشفع لأخيها إلى يزيد، فشفع فأمضى يزيد شفاعته، فكتب بإخراج المختار.
رسالة المختار:
لما قدم أصحاب سليمان بن صُرَد من الشام، كتب إليهم المختار من الحبس: أمّا بَعدُ، فإنّ الله أعظَمَ لكمُ الأجر، وحطّ عنكم الوِزْر، بمفارقة القاسطين، وجهاد المُحلّين، إنّكم لن تُنفقوا نفقةً ولم تقطعوا عقبة، ولم تخطوا خُطوة إلاّ رفعَ الله لكم بها درجة، وكتب لكم حسنة، فأبشِروا فإنّي لو خرجتُ إليكم جرّدت فيما بين المشرق والمغرب من عدوِّكم بالسيف بإذن الله، فجعلتُهم رُكاما، وقتلتُهم فَذّاً وتوأما، فرحّب اللهُ لمَن قارب واهتدى، ولا يُبعِد اللهُ إلاّ مَن عصى وأبى، والسلام عليكم يا أهل الهدى.
فلمّا جاء كتابه وقف عليه جماعة من رؤساء القبائل، وأعادوا الجواب: قرأنا كتابك ونحن حيث يَسرُّك، فإن شئت أن نأتيَك حتّى نُخرجك من الحبس فَعَلْنا، فأخبره الرسول فسُرّ المختار باجتماع الشيعة له، وقال: لا تفعلوا هذا؛ فإنّي أخرج في أيّامي هذه.[3]
وفعلا خرج المختار من السجن ولمّا استقرّ في داره، اختلف الشيعة إليه واجتمعت عليه، واتّفقوا على الرضى به، وكان قد بُويع له وهو في السجن، ولم يزل يكثرون وأمرُهم يقوى ويشتدّ، حتّى عَزَل عبدُالله بن الزبير الواليَين مِن قِبَله، وهما: عبدالله بن يزيد وإبراهيم بن محمّد بن طلحة.
ثورته الخالدة:
أوجدت ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ردود فعل كبيرة في صفوف الأُمّة الإسلامية، فتوالت الحركات الثورية مقاومة للتسلّط البغيض للزمرة الظالمة الأُموية، وعلى إضعافها.
فحدثت ثورة التوّابين بقيادة سُليمان بن صُرد الخزاعي، والمسيّب بن نجبة الفزاري بالكوفة، ورفعوا شعار التوبة والتكفير لتخلّفهم عن نُصرة الإمام الحسين (عليه السلام).
ثمّ وقعت ثورة المختار الثقفي تحت شعار: يا لثارات الحسين، تلك الثورة التي أدخلت السرور على أهل البيت (عليهم السلام) حيث أصدر المختار أوامره بإيقاد النيران وهي العلامة المتفق عليها، كما أمر بإطلاق شعارات الثورة: (يا منصور أمت) وهو شعار نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) في معركة بدر.
وفي قلب الظلام استيقظ سكّان الكوفة على شعارات يا لثارات الحسين، وهب الثائرون إلى منزل المختار الذي أصبح مركزاً لقيادة الثورة ودارت معارك ضارية في شوارع الكوفة وأزقتها واستسلم جنود الوالي وشرطته، كما فرّ الوالي بنفسه إلى الحجاز.
فأخذ المختار يقتل كلّ مَن اشترك في قتل الإمام الحسين (عليه السلام) من أهل الكوفة، بعدما انقضّ المختار على الكوفة وقد خبّأت رؤوس الفتنة والضلالة والجريمة، آلافاً من قتلة سيّد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام)، فيحصدها المختار انتقاماً لدم وليّ الله، وثأراً ممّن قتل الأطفال والصالحين وسبى النساء والأرامل والثكالى... الذين جعلوا بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله) في عزاء ونحيب وعويل ليلَ نهار.
قال المنهال: دخلتُ على عليّ بن الحسين مُنصرَفي من مكّة، فقال لي: يا منهال، ما صنع حرملةُ بن كاهل الأسديّ؟ فقلت: تركته حيّاً بالكوفة، فرفع يديه جميعاً ثمّ قال عليه السّلام: أللهمّ أَذِقْه حرَّ الحديد، أللهمّ أذِقْه حرّ الحديد، أللهمّ أذِقْه حرَّ النار.
قال المنهال: فقدمتُ الكوفة وقد ظهر المختار بن أبي عبيدة الثقفيّ وكان لي صديقا...، فركبتُ إليه ولقيتُه خارجاً من داره، فقال: يا منهال، لم تأتِنا في ولايتنا هذه (أي حكومتنا)، ولم تُهنّئنا بها، ولم تُشركنا فيها؟! فأعلمتُه أنّي كنت بمكّة، وأنّي قد جئتك الآن. وسايرتُه ونحن نتحدّث حتّى أتى (الكُناسة) فوقف وقوفاً كأنه ينظر شيئاً، وقد كان أُخبر بمكان حرملة فوجّه في طلبه، فلم يلبث أن جاء قوم يركضون وقوم يشتدّون، حتّى قالوا: أيُّها الأميرُ البشارة، قد أُخذ حرملة بن كاهل! فما لبثنا أن جيء به، فلمّا نظر إليه المختار قال لحرملة: الحمد لله الذي مكّنني منك... ثمّ قال: النارَ النار. فأُتيَ بنارٍ وقصب، فأُلقي عليه فاشتعل فيه النار.
قال المنهال: فقلت: سبحانَ الله! فقال لي: يا منهال، إنّ التسبيح لَحَسَن، ففيم سبّحت؟ قلت: أيّها الأمير، دخلتُ في سفرتي هذه منصرفي من مكّة على عليّ بن الحسين (عليهما السلام) فقال لي: يا منهال، ما فعل حرملة بن كاهل الأسديّ؟ فقلت: تركتُه حيّاً بالكوفة. فرفع يديه جميعاً فقال: أللهمّ أذِقْه حرَّ الحديد، أللهمّ أذِقْه حرّ الحديد، أللهمّ أذقْه حرّ النار.
فقال لي المختار: أسمعتَ عليَّ بن الحسين يقول هذا؟! فقلت: واللهِ لقد سمعتُه يقول هذا. فنزل عن دابّته وصلّى ركعتين فأطال السجود.. ثمّ ركب وقد احترق حرملة، وركبتُ معه، وسرنا فحاذيتُ داري فقلت: أيّها الأمير، إن رأيتَ أن تُشرّفني وتُكرمني وتَنزل عندي وتحرِّم طعامي (أي تكون بيننا حرمة وذمّة بتناول الطعام)، فقال: يا منهال، تُعلِمُني أنّ عليَّ بن الحسين دعا بثلاث دعوات، فأجابه الله على يدي، ثمّ تأمرني أن آكل؟! هذا يوم صومٍ شكراً لله عزّ وجلّ على ما فعلتُه بتوفيقه[4].
إرساله جيشا لمقاتلة عبيد الله بن زياد:
شيّع المختارُ إبراهيمَ بن مالك الأشتر ماشياً يبعثه إلى قتال عبيد الله بن زياد، فقال له إبراهيم: اركبْ رَحِمَك الله، فقال المختار: إنّي لأحتسب الأجر في خُطايَ معك، وأحبُّ أن تَغْبَرَّ قدمايَ في نصر آل محمّد صلّى الله عليه وآله. ثمّ ودّعه وانصرف.. فسار ابن الأشتر إلى المدائن يريد ابنَ زياد، ثمّ نزل نهرَ الخازر بالموصل شمال العراق، وكان الملتقى هناك، فحضّ ابن الأشتر أصحابه خاطباً فيهم: يا أهل الحقّ وأنصار الدين، هذا ابنُ زيادٍ قاتلُ حسين بن عليٍّ وأهلِ بيته، قد أتاكم اللهُ به وبحزبه حزب الشيطان، فقاتلوهم بنيّةٍ وصبر؛ لعلّ الله يقتله بأيديكم ويشفي صدوركم.
وتزاحفوا.. ونادى أهل العراق: يا لَثارات الحسين. فجال أصحاب ابن الأشتر جولةً...، وحمل ابن الأشتر يميناً فخالط القلب وكسرهم أهل العراق فركبوهم يقتلونهم، فانجلت الغُمّة وقد قُتل عبيدُ الله بن زياد، وحصين بن نمير، وشرحبيل بن ذي الكلاع، وأعيان أصحابهم.
قيل: وبعث إبراهيم بن الأشتر برأس ابن زياد ورؤوس أعيان مَن كان معه إلى المختار، فبعثهم المختار إلى محمّد بن الحنفيّة وإلى الإمام زين العابدين (عليه السلام)، فأُدخلت عليه وهو يتغدّى.. فقال (عليه السلام): أُدخِلتُ على ابن زياد (أي حينما أُسر وجيء به إلى الكوفة) وهو يتغدّى ورأسُ أبي بين يدَيه، فقلت: اللهمّ لا تُمتْني حتّى تُريَني رأسَ ابنِ زياد وأنا أتغدّى.. فالحمد لله الذي أجاب دعوتي[5].
وفي رواية ابن نما الحلّيّ: فسجد الإمام (عليه السلام) ؛ شكراً لله، وقال: الحمد لله الذي أدرك لي ثأري مِن عدوّي، وجزى اللهُ المختارَ خيرا[6].
قتله لعمر بن سعد:
كان المختار قد سُئل في أمان عمر بن سعد بن أبي وقّاص، فآمَنَه على شرط ألاّ يخرج من الكوفة، فإن خرج منها فدمُه هدر، فأتى عمرَ بن سعد رجلٌ فقال له: إنّي سمعت المختار يحلف ليقتلنّ رجلاً، واللهِ ما أحسَبُه غيرَك! قال الراوي: فخرج عمر حتّى أتى الحمّام (الذي سُمّي فيما بعد بحمّام عمر) فقيل له: أترى هذا يخفى على المختار! فرجع ليلاً.. فعلم المختار بخروجه فأرسل أبا عَمرة وبعث معه رجلين فجاؤوا برأس عمر بن سعد.
واشتدّ أمر المختار بعد قتل ابن زياد، وأخافَ الوجوه، وكان يقول: لا يسوغ لي طعامٌ ولا شراب حتّى أقتلَ قَتَلَةَ الحسينِ بن عليّ (عليه السلام) وأهلِ بيته، وما مِن دِيني أترك أحداً منهم حيّاً. وقال: أعْلِموني مَن شرك في دم الحسين وأهل بيته.. فلم يكن يأتونه برجل فيشهدون أنّه من قَتَلَة الحسين أو ممّن أعان عليه، إلاّ قتله.
وذكر الطبريّ في تاريخه أنّ المختار تجرّد لقَتَلَة الحسين وأهل بيته، وقال: إن المختار قال لهم اطلبوا لي قتلة الحسين فإنه لا يسوغ لي الطعام والشراب حتى أطهر الأرض[7].
وذكر بعض المؤرّخين أنّه عذّب قتلةَ الحسين (عليه السلام) تعذيباً يشابه فعلتَهم الإجراميّة في كربلاء، حتّى أباد ـ كما قيل ـ ثمانية عشر ألفاً منهم خلال ثمانية عشر شهراً من حكومته، وهرب الكثير.. فلاحقهم ونكّل بهم.
إرجاع بعض الحقوق المغتصبة:
يذكر أن المختار أعاد شيئاً من الحقوق المهتضَمة المستلبة مِن أهل البيت (عليهم السلام) ومن ذلك أنّه بعث عشرين ألفَ دينارٍ إلى الإمام السجاد (عليه السلام)، فقَبِلَها منه وبنى بها دار عقيل بن أبي طالب ودارَهم التي هُدِمت[8].
فأعرب المختار الثقفيّ عن إيمانه وغيرته، وعن ولائه وإخلاصه وهمّته.. وفوق هذا حُسن نيّته، وذِكره الحسَن الذي جرى على لسان أئمّته.
من أقوال الأئمّة (عليهم السلام) فيه:
1ـ قال عمر بن علي بن الحسين: إنّ علي بن الحسين (عليهما السلام) لمّا أُتي برأس عبيد الله بن زياد ورأس عمر بن سعد، فخرّ ساجداً وقال: الحمد لله الذي أدرك لي ثأري من أعدائي، وجزى الله المختار خيراً. [9]
2- قال الإمام الباقر (عليه السلام) للحَكَم ابن المختار: رحم الله أباك، رحم الله أباك، ما ترك لنا حقّاً عند أحد إلّا طلبه، قتل قَتَلتنا، وطلب بدمائنا[10].
3ـ قال الإمام الباقر (عليه السلام): لا تسبّوا المختار؛ فإنّه قتل قتَلتنا، وطلب بثأرنا، وزوّج أراملنا، وقسّم فينا المال على العسرة.[11]
4ـ قال الإمام الصادق (عليه السلام): ما امتشطت فينا هاشمية ولا اختضبت، حتّى بعث إلينا المختار برؤوس الذين قتلوا الحسين (عليه السلام) [12].
شهادته:
استُشهد (رضوان الله عليه) في الرابع عشر من شهر رمضان سنة 67ﻫ، بعدما قاتل مصعب بن الزبير وجيشه أشدّ قتال، ودُفن بجوار مرقد مسلم بن عقيل (عليه السلام)، وقبره معروف يُزار، فرحمه الله وأجزل له العطاء، ورُزق شفاعةَ المصطفى سيّد الرسل والأنبياء، وشفاعةَ الأئمّة الهداة الأمناء (عليهم السلام).
لتحميل الملف اضغط هنا
[1] وسائل الشيعة: ج20، ص347.
[2] بحار الأنوار: ج41، ص345.
[3] بحار الأنوار: ج45، ص363.
[4] راجع بحار الأنوار: ج45، ص332.
[5] راجع الأمالي: ص240.
[6] ذوب النضار: ص144.
[7] تاريخ الطبري: ج4، ص529.
[8] راجع بحار الأنوار: ج45، ص344.
[9] بحار الأنوار: ج45، ص344.
[10] وسائل الشيعة: ج20، ص347.
[11] بحار الأنوار: ج45، ص343.
[12] بحار الأنوار: ج45، ص344.