اختلف المتكلّمون في حقيقة الإبصار تبعاً للباحثين الطبيعيين والمشهور بينهم قولان:
الأوّل: خروج الشعاع على هيئة المخروط من العين بحيث يكون رأسه في العين وقاعدته منطبقة على المُبْصَر. وهذا القول متروك بفضل ما توصلت إليه الأبحاث الحديثة.
الثاني: انعكاس صورة المرئي على العين بما حاصله أنَّ الأشياء الخارجية تُرى إذا وصل نورها إلى العين إمّا نورها النابع منها إذا كانت منيرة بنفسها كالشمس، أو المنعكس عليها من مصدر منير إذا لم تكن منيرة كما هو الغالب فإذا وصل النور إلى العين فإنه يخترق أوّلاً القَرَنِية وهي غطاء العين الخارجي شفافة ومُحَدّبة، فينكسر ثمّ يعبر «العينية»، ويرد «العدسيّة» فينكسر مرّة أخرى ويتمركز على طبقة حساسة داخل كرة العين تسمّى الشبكيّة صورة مضيئة مقلوبة عن صورة المرئي الخارجي. ويتّصل بهذه الشبكيّة أطراف أعصاب الرؤية، فيوجب انطباع الأشعة على الشبكيّة تحريك تلك الأعصاب وإرسال المتموّجات المناسبة للأشعة المنطبقة إلى الدماغ، فيحلّلها الدماغ، ويفسّرها ويتعقّلها بالشكل والصورة الّتي نعرفها.
هذا هو واقع الإبصار والرؤية، فيجب أن يكون كلّ من النفي والإثبات على هذا المعنى الّذي كشف عنه جهابذة العلم. وبذلك يعلم أنّ تفسير الإبصار ورؤيته سبحانه بالعلم به أو بإدراكه في القلب أو من طريق الشهود خروج عن البحث ونحن مركزون على إمكان رؤيته بهذه الأبصار الّتي يملكها كلّ إنسان، لأنَّ هذا هو محط البحث بين العدليّة والأشاعرة فنقول:
دليل المنع:
1- إنَّ الرؤية إنّما تصحّ لمن كان مقابلاً أو في حكم المقابل، والمقابلة إنّما تتحقّق في الأشياء ذوات الجهة، والله تعالى منزّه عنها فلا يكون مرئيّاً.
وبعبارة أُخرى: إنّ المراد من الرؤية إمّا حقيقتها، أعني: الإدراك بحسّ البصر، وهو مستلزم لإثبات الجهة له تعالى بالضرورة، سواء أَقُلْنا بأنّ الإبصار يتحقّق بانطباع صورة الشيء في العين أو بخروج الشعاع منها. وإمّا غير حقيقتها ممّا يُعبر عنه بالإدراك العلمي والشهود القلبي وغير ذلك ممّا لا يَعْرِف حقيقته إلّا القائل به، فهو حينئذ خارج عن محطّ البحث ومجال النزاع
2- إنَّ الرؤية إما أن تقع على الذات كلّها أو على بعضها. فعلى الأوّل يلزم أنْ يكون المرئي محدوداً متناهياً محصوراً شاغلاً لناحية من النواحي، وخلو النواحي الأُخرى منه تعالى. وعلى الثاني يلزم أنْ يكون مركباً متحيّزاً ذا جهة إلى غير ذلك من التوالي الفاسدة، المرفوضة في حقّه سبحانه.
3- إنّ الرؤية لا تتحقّق إلّا بانعكاس الأشعة من المرئي إلى أجهزة العين، وهو يستلزم أنْ يكون سبحانه جسماً ذا أبعاد، ومعرضاً لعوارض وأَحكام جسمانيّة، وهو المنزّه عن كلّ ذلك.
4- إنّ الرؤية بأجهزة العين نوع إشارة إليه بالحدقة وهو سبحانه منزه عن الإشارة. فإنّ كلّ مرئي في جهة يشار إليه بأنّه هنا أو هناك، ويصحّ أنْ يقال: إنه مقابل للرائي أو في حكمه. وهذا المعنى منتف في حقّه سبحانه.
إنّ مجموع الأدلّة الأربعة تعتمد على أمر واحد وهو أنّ تجويز الرؤية على الله سبحانه يستلزم كونه جسماً أَو جسمانيّاً. فالأوّل يعتمد على أنّ الرؤية تستلزم أن يكون ذا جهة وتحيّز. والثاني يعتمد على أنّ الرؤية تستلزم تناهي ذاته إذا وقعت الرؤية على تمامها، أو مركبة إذا وقعت على بعضها. والثالث يعتمد على أنّ الرؤية تستلزم أن تكون جسماً وذا عوارض جسميّة والرابع يعتمد على أنّ الرؤية تستلزم الإشارة إليه تعالى، وهو فوق أن يقع في ذلك المجال. فروح الأدلّة الأربعة يرجع إلى أمر واحد، وهو أنّ تجويز رؤيته معناه كونه سبحانه موجوداً متحيزاً ومحدوداً وذا جهة وعوارض جسمانيّة وقابلاً للإشارة وكلّ ذلك مستحيل، فتكون النتيجة امتناع وقوع الرؤية عليه[1].
مجلة اليقين العدد (19)