بسم الله الرحمن الرحيم
(وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)[1].
الآية تنهى عن إتباع ما لا علم به، وهي لإطلاقها تشمل الإتباع اعتقاداً وعملاً، يعني: لا تعتقد ما لا علم لك به ولا تقل ما لا علم لك به ولا تفعل ما لا علم لك به لأن في ذلك كله إتباعاً مذموماً، والمعنى لا تكن تابعاً لما ليس لك به علم من الآراء أو الأفكار أو الأشخاص أو المذاهب أو الرؤى فلا تكن تابعاً لشيء منها دون علم وبصيرة وتعقل.
وهذا يشمل جميع الأحوال والأزمان والأمكنة؛ لأن العموم ينصب على هذه الأمور جميعاً، فالعبد منهي عن إتباع ما ليس له به علم في كل وقت وفي كل قضية، سواءً كانت تتعلق بحقوق الله أو حقوق الآدميين أو غير ذلك من الأمور.
ويؤيد ذلك ما ذيّل الله به الآية فقال:
(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) أي لا بد من استخدام هذه النعم: السمع والبصر والعقل في التدبر والمضي بعد ذلك على نور وهدى وليس عن إتباع وتقليد أعمى وإلا كانت العقوبة والمساءلة عن عدم استخدامها.
وفي ذلك إمضاء لما تقضي به الفطرة الإنسانية وهو وجوب إتباع العلم والمنع عن إتباع غيره فإنّ الإنسان بفطرته الموهوبة لا يريد في مسير حياته باعتقاده أو عمله إلا إصابة الواقع، والإنسان بفطرته السليمة يتبع في اعتقاده ما يراه حقاً ويجده واقعاً في الخارج، ويتبع في عمله ما يرى نفسه مصيباً في تشخيصه، وذلك فيما تيسر له أن يحصل العلم به، وأما فيما لا يتيسر له العلم به كالفروع الاعتقادية بالنسبة إلى بعض الناس وغالب الأعمال بالنسبة إلى غالب الناس فإنّ الفطرة السليمة تدفعه إلى إتباع علم من له علم بذلك وخبرة باعتبار علمه وخبرته علما لنفسه فيؤل إتباعه في ذلك بالحقيقة إتباعاً لعلمه بان له علما وخبرة كما يرجع المسافر وهو لا يعرف الطريق إلى الدليل لكن مع علمه بخبرته ومعرفته، ويرجع المريض إلى الطبيب ومثله أرباب الحوائج إلى مختلف الصناعات المتعلقة بحوائجهم إلى أصحاب تلك الصناعات.
ويتحصل من ذلك أن على الإنسان أن لا يتخطى العلم في مسير حياته بحسب ما تهدي إليه فطرته غير أنه يعتبر ما تثق به نفسه ويطمئن إليه قلبه علماً وان لم يكن ذاك اليقين الذي يسمى علماً في اصطلاح أهل العلم.
فله في كل مسالة ترد عليه إما علم بنفس المسألة وإما دليل علمي بوجوب العمل بما يؤديه ويدل عليه، فيؤول معنى قوله سبحانه (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) إلى أنه يحرم الاقتحام على اعتقاد أو عمل يمكن تحصيل العلم به إلا بعد تحصيل العلم، وأما مالا يمكن فيه ذلك فيحرم الاقتحام عليه إلا بعد الاعتماد على دليل علمي يجوّز الاقتحام والورود وذلك كأخذ الأحكام عن النبي(صلى الله عليه وآله) وإتباعه وإطاعته فيما يأمر به وينهى عنه من قبل ربه، وتناول المريض ما يأمر به الطبيب والرجوع إلى أصحاب الصنائع فيما يرجع إلى صناعتهم، فان الدليل العلمي على عصمة النبي(صلى الله عليه وآله) دليل علمي على مطابقة ما يخبر به أو ما يأمر به وينهى عنه للواقع وإصابة من اتبعه الصواب، والحجة العلمية على خبرة الطبيب في طبه، وأصحاب الصناعات في صناعاتهم حجة علمية على إصابة من يرجع إليهم فيما يعمل به.
وقوله: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) تعليل للنهي السابق في قوله: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).
فالمسؤول هو كل من السمع والبصر والفؤاد يسال عن نفسه فيشهد للإنسان أو عليه كما قال تعالى: (وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[2].
والسؤال هنا كناية عن المؤاخذة بالتقصير وتجاوز الحق، كما يقال: أنت مسؤول عن تصرفاتك، أو سُتسأل عن فعلك هذا، كما في قوله تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[3].
والمعنى: لا تتبع ما ليس لك به علم لأنّ الله سبحانه سيسأل عن السمع والبصر والفؤاد وهي الوسائل التي يستعملها الإنسان لتحصيل العلم، والمحصّل من التعليل أن السمع والبصر والفؤاد إنما هي نعم آتاها الله الإنسان ليشخّص بها الحق ويحصل بها على الواقع فيعتقد به ويبني عليه عمله وسيسأل عن كل منها هل أدرك ما استعمل فيه ادراكاً علمياً؟ وهل اتبع الإنسان ما حصلته تلك الوسيلة من العلم؟
فيسأل السمع هل كان ما سمعه معلوماً مقطوعاً به؟ وعن البصر هل كان ما رآه ظاهرا بيّنا؟ وعن الفؤاد هل كان ما فكّر به وقضى به يقينيا لا شك فيه؟ وهي لا محالة تجيب بالحق وتشهد على ما هو الواقع فمن الواجب على الإنسان أن يتحرز عن إتباع ما ليس له به علم فإنّ الأعضاء ووسائل العلم التي معه ستسأل فتشهد عليه فيما اتبعه مما حصلته ولم يكن له به علم ولا يقبل حينئذ له عذر.
فالآية تريد إن تحذر وتقول: لا تقف ما ليس لك به علم فإنه محفوظ عليك في سمعك وبصرك وفؤادك، والله سائلها عن عملك لا محالة، وسوف تشهد عليك، وهو من أعجب ما يستفاد من آيات الحشر إن يوقف الله النفس الإنسانية فيسألها عما أدركت فتشهد على الإنسان نفسه.
وقد تبيّن أن الآية تنهى عن الإقدام على أمر مع الجهل به سواء كان اعتقادا مع الجهل أو عملا مع الجهل بجوازه ووجه الصواب فيه أو ترتيب أثر لأمر مع الجهل به وذيلها يعلل ذلك بسؤاله تعالى السمع والبصر والفؤاد، ولا ضير في كون العلة أعم مما عللتها فان الأعضاء مسؤولة حتى عما إذا أقدم الإنسان مع العلم بعدم جواز الإقدام قال تعالى: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[4] .[5]
دعوة إلى التثبّت:
في قوله: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) دعوة إلى التحري والتثبّت، والمعنى: لا تتبع ما ليس لك به علم، بل الواجب أن تتثبت في كل ما تقوله أو تعمله أو تتلقاه.
ومعلوم أن التثبت في كل الأمور دليلٌ على حسن الرأي وجودة العقل والنظر، وبذلك تنكشف الأمور وتتبين الأحوال، وبالتالي يقرر العبد ماذا يعمل أو يعتقد ويقبل وماذا يترك.
والمتثبت يُعمِل فكره وعقله ويشاور غيره، وهذا من أعظم الأسباب المعينة على الوصول للحق والصواب، وبهذا يجتاز العبدُ أسباب الندم والحسرة، وغير ذلك من الأمور الجالبة للشقاء بإذن الله تعالى.
ذكر السَّمْع وَالْبَصَر وَالْفُؤَاد:
تخصيص الأمور الثلاثة بالذكر لا يدل على حصر المؤاخذة فيها؛ لأن الإنسان مؤاخذ على جميع تصرفاته، وإنما خصصها بالذكر؛ نظراً لعظم خطرها، ولأنها الآلات التي بها يحصل العلم النافع للعبد، وهو ما يميز الإنسان عن غيره من الحيوان؛ إذ إن العلم تدور رحاه على هذه الأقطاب الثلاثة: السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ.
ترتيب ذكر السَّمْع وَالْبَصَر وَالْفُؤَاد:
في قوله تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ) قُدِّم السمع على البصر وأُخِّر ذكرُ الفؤاد؛ لأنه منتهى الحواس ومستقر المعتقدات ومبعث الإرادات، والسمع والبصر طريقان له ونافذتان عليه، وبهما يصل إليه كثيرٌ من الأمور النافعة أو الضارة، فما تبصره العين يؤثر في القلب ولا شك، كالنظرة المحرمة.. الخ، وهكذا ما تسمع الأذنُ من خيرٍ وشر كالغناء.
وقدَّم السمع على البصر؛ لأن أكثرَ ما ينسب الناس أقوالهم إلى السمع، ولأن إدراك السمع أعظم وأشمل من إدراك البصر؛ ذلك أن البصر إنما يدرك به ما كان في مواجهته خاصة، أما السمع فيدرك به جميع المسموعات التي تطرقه من جميع الجهات، وأيضاً فإن البصر لا يدرك به إلا الأجسام والأجرام، بخلاف السمع، فإن العبد يدرك به الأمور الحاضرة والغائبة مما أُخبر عنه، وهكذا فالترتيب الواقع بين هذه الأمور في الآية متدرج به من الأدنى إلى الأعلى.
المراقبة والمحاسبة:
إذا كان السمع والبصر والفؤاد منقسماً إلى ما يؤمر به وينهى عنه، والعبد مسؤول عن ذلك، فإن هذا يدعو إلى المراقبة والمحاسبة، والوقوف مع النفس ومساءلتها، والعبد مسؤول عن حركات هذه الجوارح، وهل هي حركات نافعة، بأن وضعت فيما يقرِّب إلى الله تعالى أم ضارة بأن وجهت لمعصية الله.
فعلى العبد أن يتعاهدها بحفظها عن الأمور الضارة؛ ليعدّ لهذا السؤال جواباً، فمن استعملها في طاعة الله فقد زكّاها ونمّاها، وأثمرت له النعيم المقيم، ومن استعملها في ضد ذلك فقد دسّاها، وأسقطها وأوصلته إلى العذاب الأليم.
مجلة بيوت المتقين العدد (34)