يشترك الأنبياء (عليهم السلام) مع باقي الناس في كثير من الأحكام ويختصون (عليهم السلام) بأحكام دون الناس، كما في حرمة نكاح زوجات النبي (صلى الله عليه وآله)، وحلية الزواج له (صلى الله عليه وآله) بأكثر من أربعة نساء وغيرها، وهذا الأمر لا خلاف فيه.
لكن وقع الخلاف بين المذاهب الإسلامية في شمول أحكام إرث الميت للأنبياء (عليهم السلام)، وهل تشمل تلك الأحكام الإرثية للنبي (صلى الله عليه وآله) فترثه الزهراء (عليها السلام) أم لا؟ وهل يُورَثُ المال أم النبوّة أم كلاهما؟
ومنشأ هذا الخلاف حديث انفرد في روايته أبو بكر كما ذكر ابن سعد: (أخبرنا محمّد بن عمر، حدّثني هشام بن سعد، عن عبّاس بن عبد الله بن معبد، عن أبي جعفر قال: جاءت فاطمة الى أبي بكر تطلب ميراثها، وجاء العبّاس بن عبد المطّلب يطلب ميراثه، وجاء معهما علي، فقال أبو بكر: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّـا معاشر الأنبياء لا نورّث، ما تركنا صدقة، وما كان النبي يعول فعليّ، فقال عليّ:ٌ (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ دَاوُودَ)[1]، وقال زكريّا: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)[2]، قال أبو بكر: هو هكذا، وأنت تعلم مثل ما أعلم، فقال علي: هذا كتاب الله ينطق، فسكتوا وانصرفوا)[3].
إن منع الزهراء (عليها السلام) حقها من إرث النبي (صلى الله عليه وآله) قضية مشهورة، ذكرتها كتب التأريخ والروايات، وكان الغرض منها رد الدعوى والقدح بعصمتها، حتى لا يضطر الى الإقرار بإمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا ادعت ذلك، لأنه لو صدّقها في دعوى إرثها من أبيها ـ كونها معصومة ولا تكذب ـ فإنه سيضطر الى تصديقها إذا ادّعت أن الخلافة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، لذلك افتعل هذا الحديث عن النبي (لا نورّث ما تركنا صدقة).
وقد أجابت الزهراء (عليها السلام) على الاختلاف الأوّل وقالت: إن حكم المواريث حكم يشترك به النبي(صلى الله عليه وآله) مع بقية الناس، وذلك عندما احتجت على أبي بكر، وأنكرت عليه افتراء الحديث في خطبتها المشهورة حيث قالت: «أفَخَصَّكُمُ اللهُ بِآيَةٍ أخْرَجَ مِنْها أبِي؟ أمْ هَلْ تَقُولونَ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ لا يَتَوارَثَانِ، أوَ لَسْتُ أَنَا وَأَبِي مِنْ أَهْلِ مِلَّةٍ واحِدَةٍ؟! أَمْ أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِخُصُوصِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِهِ مِنْ أَبِي وَابْنِ عَمّي؟»[4].
أما الاختلاف الثاني وهو أن الأنبياء(عليهم السلام) يورّثون المال أم النبوّة أم كلاهما؟
فنقول: أما النبوة فهي شأن إلهي، والنبي(صلى الله عليه وآله) يختاره الله، ولا دخل للميراث فيها، والذي يهمنا في الأمر هو إثبات توريث المال من النبي(صلى الله عليه وآله) ليصح دليلاً على رد حديث أبي بكر المفتعل، ومن الآيات الدالة على ذلك هي قوله تعالى حكاية عن زكريّا(عليه السلام): (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)[5].
فإنا نحمل الوراثة هنا على وراثة المال لأمرين:
الأول: قول زكريا(عليه السلام) في آخر الدعاء: (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)، فلو كان المقصود من الإرث النبوة لكان سؤاله بكون الوارث رضيّاً لغواً وعبثاً، لأن النبي لا يكون إلّا رضياً معصوماً، فمن العبث أن يكون الدعاء: ربّ هب لي نبيّاً، وأسألك أن يكون هذا النبي رضيّاً، مما يدل على أن المقصود هو أمر آخر غير النبوّة، وليس هو إلّا الأمور المادية.
الثاني: أن العلم والنبوة لا تورّث، بل لا تحصل إلّا بالاكتساب كالعلم، أو الاصطفاء كالنبوة، فوجب حمل ما يورثه على المال.
وظاهر احتجاج الزهراء (عليها السلام) بالآيات القرآنية أنها استدلت على مدعاها بإطلاق آيات التوارث بين الأنبياء (عليهم السلام)، وأنها لم تخصص إرثهم (عليهم السلام) بالنبوة، لذلك عارضت الرواية التي جاء بها أبو بكر، وطالبته بدليل على صحتها، كونها مخالفة لصريح القرآن الكريم.
مجلة اليقين العدد (31)