الجواب: هذا ما لا نعرفه، والله عز وجل هو العالم بذلك، حيث إن القرار قرار إلهي، ولم تصرح الاحاديث بسبب ذلك رغم أنها ذكرت أن للقائم (عجل الله فرجه الشريف) غيبتين. ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن الغيبة الأولى (الصغرى) باعتبارها غيبة خفيفة بالنسبة إلى الغيبة الثانية (الكبرى) كانت ضرورية لايجاد الارتباط بين الامام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) وبين الخواص من شيعته، وفي هذه الفترة التي طالت 70 عاماً تقريباً حصل هذا الارتباط، وكانت هذه المدة كافية لترسيخ ثقافة الغَيبة لدى شيعة الإمام (عجل الله فرجه الشريف)، وبحصول الغرض دخلت الغيبة في مرحلة أكثر عمقاً، ومما يؤكد هذا ما روي عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): (لِلْقَائِمِ غَيْبَتَانِ، إِحْدَاهُمَا قَصِيرَةٌ وَ الْأُخْرَى طَوِيلَةٌ، الْغَيْبَةُ الْأُولَى لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِهِ فِيهَا إِلَّا خَاصَّةُ شِيعَتِهِ، وَ الْأُخْرَى لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِهِ فِيهَا إِلَّا خَاصَّةُ مَوَالِيهِ)[1].
والنيابة في والغَيبة الكبرى تكون لخط عام ضبطه الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) من خلال الخصائص العامة الذي يجب أن تتوافر في الفقيه، فقد ورد عنه (عليه السلام): (فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه)[2].
وعن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علي، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عجل الله فرجه الشريف): (أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك - إلى أن قال: - وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله)[3].
وعن عمر بن حنظلة عن الإمام الصادق(عليه السلام): (... انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فارضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً؛ فإذا حكم بحكمنا ولم يقبله منه، فإنّما بحكم الله استخفّ، وعلينا ردّ وهو رادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله.. )[4].
وفي ضوء ما تقدم فان نظام السفراء والوكلاء من أرقى ما توصل إليه الفكر الإمامي في الدعوة والتبليغ، ويرى فيه البديل الأمين عن حضور الإمام (عليه السلام) في الواجهة الأمامية، لانه الوسيط الموثوق به بين الإمام وأوليائه، والقائم على مشاريع الإمام في قبض المال وتوزيعه في مظان استحقاقه ومشروعيته طبق الموازين، وهو سبيل الإجابة عن الاستفتاءات في شؤون الأحكام، وهو نوع من التناوب على القيام بالمسؤولية الشرعية بما يخفف ولو جزئياً من أعباء الإمام (عليه السلام)، وفيه ضمان للسلامة من الهزات الأمنية والاحتقان السياسي، والابتعاد عن الأضواء التي تثير حساسية السلطان.
ومن هنا كان هذا التخطيط الأمثل هو الأصل في قيام مرجعية فقهاء أهل البيت (عليهم السلام) فيما بعد، إذ اعتاد أولياء الأئمة (عليهم السلام) على تلقي أحكامهم عن طريق نيابة الوكلاء، وقد قام على أساسه نظام آخر يمتد مع أهل البيت (عليهم السلام) في الارتباط بأوليائهم حتى الظهور وقيام الدولة العالمية للإسلام على يدي الإمام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)، ذلك النظام العريق هو نظام (المرجعية الدينية) المنطلق من التوقيع الرفيع لصاحب الأمر: (..وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله).
ولقد جاء عن أهل البيت (عليهم السلام)مدح العلماء من المؤمنين في عصر الغَيبة ووصفهم بأجمل الصفات كما في الروايات التالية:
عن الإمام محمد بن علي الجواد (عليهما السلام): (من تكفل بأيتام آل محمد المنقطعين عن إمامهم المتحيرين في جهلهم الأسارى في أيدي شياطينهم وفي أيدي النواصب من أعدائنا فاستنقذهم منهم وأخرجهم من حيرتهم وقهر الشياطين برد وساوسهم وقهر الناصبين بحجج ربهم ودلائل أئمتهم ليحفظوا عهد الله على العباد بأفضل الموانع بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش والكرسي والحجب على السماء، وفضلهم على العباد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء) [5].
وعن الإمام علي بن محمد (عليهما السلام): ( لولا من يبقى بعد غَيبة قائمكم (عليه السلام) من العلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل)[6].
وعنه (عليه السلام) قال: (يأتي علماء شيعتنا القوامون بضعفاء محبينا وأهل ولايتنا يوم القيامة والأنوار تسطع من تيجانهم، على رأس كل واحد منهم تاج بهاء قد انبثت تلك الأنوار في عرصات القيامة ودورها مسيرة ثلاثمائة ألف سنة، فشعاع تيجانهم ينبث فيها كلها فلا يبقى هناك يتيم قد كفلوه ومن ظلمة الجهل علموه ومن حيرة التيه أخرجوه إلا تعلق بشعبة من أنوارهم، فرفعتهم إلى العلو حتى تحاذي بهم فوق الجنان، ثم ينزلهم على منازلهم المعدة في جوار أستاديهم ومعلميهم، وبحضرة أئمتهم الذين كانوا إليهم يدعون، ولا يبقى ناصب من النواصب يصيبه من شعاع تلك التيجان إلا عميت عينه وأصمت أذنه وأخرس لسانه، وتحول عليه أشد من لهب النيران، فيحملهم حتى يدفعهم إلى الزبانية فيدعونهم إلى سواء الجحيم)[7].
وفي ما روي عن التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام) أنه قال: (... وأشد من يتم هذا اليتيم يتيم انقطع عن إمامه، لا يقدر على الوصول إليه، ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع دينه، ألا فمن كان من شيعتنا عالما بعلومنا، فهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره، ألا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا، كان معنا في الرفيق الأعلى . حدثني بذلك أبي عن أبيه عن آبائهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وقال الإمام علي (عليه السلام): (من كان من شيعتنا عالما بشريعتنا، فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به، جاء يوم القيامة على رأسه تاج من نور يضئ لأهل تلك العرصات، وحلة لا يقوم لأقل سلك منها الدنيا بحذافيرها . ثم ينادي مناد: هذا عالم من بعض تلامذة آل محمد، ألا فمن أخرجه في الدنيا من حيرة جهله، فليتشبث بنوره ليخرجه من حيرة ظلمة هذه العرصات إلى نزه الجنان، فيخرج كل من كان علمه في الدنيا خيرا، أو فتح عن قلبه من الجهل قفلا أو أوضح له عن شبهة)[8].