مناظرة الشيخ الأنطاكي مع أحد مشايخ الأزهر

في يوم السابع من شهر ذي القعدة الحرام عام 1371 هـ قبيل الظهر أخبرني أحد وجهاء حلب وهو الاستاذ شعبان أبو رسول بأن أحد مشايخ الازهر، وهو علامة كبير، ومؤلف شهير يقصد زيارتكم فمتى يأتكم؟

فقلت: يا أهلاً وسهلاً، فليشرّف في هذا اليوم فجائني بعد العصر، وبعد أن أخذ بنا المجلس ورحبت به.

سألني قائلاً: إنني قصدتك للاستفسار عن السبب الذي دعاكم على الاخذ بالمذهب الشيعي وترككم المذهب السني الشافعي؟

فأجبته بكل لطف: الدواعي كثيرة جدا، منها: رأيت اختلاف المذاهب الاربعة فيما بينهم، ومنها، ومنها، وقد أخذت أعدِّد له الاسباب التي دعتني إلى الاخذ بالمذهب الشيعي.

ثم قلت: وأهمها أمر الخلافة العظمى التي هي السبب الاعظم في وقوع الخلاف بين المسلمين إذ لا يعقل أن الرسول الاعظم(صلى الله عليه وآله) يدع أمته بلا وصي عليهم يقوم بأمر الشريعة التي جاء بها عن الله كسائر الانبياء، إذ ما من نبي إلا وله وصي أو أوصياء معصومون يقومون بشريعته وقد ثبت عندي أن الحق مع الشيعة إذ معتقدهم أن النبي(صلى الله عليه وآله) قد أوصى لعلي(عليه السلام) قبل وفاته بل من بدء الدعوة وبعده أولاده الائمة الاحد عشر، وأنهم يأخذون أحكام دينهم عنهم، وهم أئمة معصومون في معتقدهم بأدلة خاصة بهم.

لهذا وأمثاله أخذت بهذا المذهب الشريف، ثم أنّا لم نعثر على دليل يوجب علينا الاخذ بأحد المذاهب الاربعة بل ولا مرجح أيضا غير أننا عثرنا على أدلة كثيرة توجب الاخذ بمذهب أهل البيت(عليهم السلام) وتقود المسلم إلى سواء السبيل.

ثم عرضت له كثيرا من الادلة القطعية الصريحة بوجوب الاخذ بمذهب أهل البيت(عليهم السلام) وكله سمع يصغي إليَّ، إلى أن قلت: يا فضيلة الشيخ أنت من العلماء الافاضل فهل وجدت في كتاب الله وسنة الرسول دليلاً ترشدك إلى الأخذ بأحد المذاهب الاربعة، فأجابني: كلا.

ثم قلت له: ألا تعرف أن المذاهب الأربعة كل واحد منهم يخالف الآخر في كثير من المسائل ولم يقيموا دليلاً قويا وبرهانا جليا واضحا على أنه الحق دون غيره وإنما يذكر الملتزم بأحد المذاهب أدلة لاقوام لها إذ ليس لها معضد من كتاب أو سنة فهي: (كشجرةٍ خبيثةٍ اجتُثَّت من فوقِ الأرض ما لها من قرار).

مثلاً لو سألت الحنفي: لِمَ اخترت مذهب الحنفية دون غيره، ولِمَ اخترت أبا حنيفة إماما لنفسك بعد ألف عام من موته، ولم تختر المالكي أو الشافعي، أو أحمد بن حنبل مع بعض مزاياهم التي يذكرونها فلم يجبك بجواب تطمئن إليه النفس.

والسر في ذلك أن كل واحد منهم لم يكن نبي أو وصي نبي وما كان يوحى إليهم، ولم يكونوا ملهمين بل أنهم كسائر من ينتسب إلى العلم وأمثالهم كثير وكثير من العلماء.

ثم أنهم لم يكونوا من أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله) وأكثرهم أو كلّهم لم يدركوا النبي ولا أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله) فاتخاذ مذهب واحد منهم وجعله مذهبا لنفسه، والالتزام به وبآرائه التي يمكن فيه الخطأ والسهو...وكل واحد منهم ذوي آراء متشتتة يخالف بعضها بعضا لا يقره العقل ولا البرهان ولا تصدقه الفطرة السليمة ولا الكتاب ولا السنة ولا حجة لاحد على الله في يوم الحساب، بل للّه الحجة البالغة عليها حتى أنه لو سأل الله من التزم بأحد المذاهب الأربعة في يوم القيامة بأيّ دليل أخذت بمذهبك هذا لم يكن له جواب سوى قوله: (إِنَّا وجدنا آبائنا على أُمّةٍ وإِنا على آثارهم مُقتَدُون). (الزخرف 23)

أو يقول: (إنا أطعنا سادتنا وكُبراءَنا فأضلّونا السبيلا) (الأحزاب 67)، فبالله عليك يا فضيلة الشيخ هل يكون لملتزمي أحد المذاهب الاربعة يوم القيامة أمام الله الواحد القهار جوابا.

فأطرق رأسه مليا ثم رفع رأسه وقال: لا.

فقلت: هل يكون أحد معذورا بذاك الجواب؟

أجابني: كلا.

ثم قلت: وأما نحن المتمسكين بولاء العترة الطاهرة آل بيت الرسول(صلى الله عليه وآله) العاملين بالفقه الجعفري فنقول في يوم الحساب عند وقوفنا أمام الله العزيز الجبار: ربنا إنك أمرتنا بذلك لانك قلت في كتابك:

(ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنهُ فانتهوا) (الحشر 7).

وقال نبيك محمد(صلى الله عليه وآله) باتفاق المسلمين «أني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض». وقال(صلى الله عليه وآله): «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق».

ولا ريب لاحد أن الإمام الصادق جعفر بن محمد(عليهما السلام) من العترة الطاهرة وعلمه علم أبيه وعلم أبيه علم جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلم رسول الله من علم الله، هذا مضافا إلى أن الإمام الصادق قد اتفق جميع المسلمين على صدقه ووثاقته، وهناك طائفة كبيرة من المسلمين من يقول بعصمته وإمامته وأنه الوصي السادس لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وإنه حجة الله على البرية، وان الإمام الصادق (عليه السلام) كان يروي عن آبائه الطيبين الطاهرين ولا يفتي برأيه ولا يقول بما يستحسنه فحديثه حديث أبيه وجده، إذ أنهم منابع العلم والحكمة، ومعادن الوحي والتنزيل.

فمذهب الإمام الصادق (عليه السلام) هو مذهب أبيه وجده المأخوذ عن الوحي لا يحيد عنه قيد شعرة، لا بالاجتهاد كغيره ممن اجتهد فالأخذ بمذهب جعفر بن محمد(عليهما السلام) ومذهب أجداده آخذ بالصواب بالصواب ومتمسك بالكتاب والسنة.

وبعد أن أوردت عليه ما سمعت من الأدلة أكبرني وفخم مقامي وشكرني فأجبته: إن الشيعة لا يطعنون على الصحابة جميعا، بل إن الشيعة يعطون لكل منهم حقه لأن فيهم العدل وغير العدل، وفيهم العالم والجاهل، وفيهم الأخيار والأشرار، وهكذا ألا ترى ما أحدثوه يوم السقيفة تركوا نبيهم مسجى على فراشه وأخذوا يتراكضون على الخلافة كلٌّ يراها لنفسه كأنها سلعة ينالها من سبق إليها مع ما رأوا بأعينهم، وسمعوا بآذانهم من النصوص الثابتة الصارخة عن الرسول (صلى الله عليه وآله) من يوم الذي أعلن الدعوة إلى اليوم الذي احتضر فيه.

مع أن القيام بتجهيز الرسول (صلى الله عليه وآله) أهم من أمر الخلافة على فرض أن النبي لم يوص فكان الواجب عليهم أن يقوموا بشأن الرسول وبعد الفراغ يعزون آله وأنفسهم، لو كانوا ذوي إنصاف فأين العدالة والوجدان، وأين مكارم الأخلاق، وأين الصدق والمحبة؟!

ومما يزيد في النفوس حزازة تهجمهم على بيت بضعته فاطمة الزهراء (عليها السلام) نحوا من خمسين رجلاً، وجمعهم الحطب ليحرقوا الدار على من فيها حتى قال قائل لعمر: إن فيها الحسن والحسين وفاطمة، قال: وإن. ذكر هذا الحادث كثير من مؤرخي السنة فضلاً عن إجماع الشيعة.

وقد علم البر والفاجر وجميع من كتب في التأريخ أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ومن أغضبها فقد أغضبني ومن أغضبني فقد أغضب الله ومن أغضب الله أكبه الله على منخريه في النار.

ووقائع الصحابة الدّالة على عدم القول بعدالة الجميع كثيرة، راجع البخاري ومسلم في ما جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث الحوض تعلم صحة ما ذهب إليه الشيعة ومن نحا نحوهم من السنّة، فأي ذنب لهم إذا قالوا بعدم عدالة كثير منهم؟ وهم الذين دلوا على أنفسهم، وحرب الجمل وصفين أكبر دليل على إثبات مدّعاهم، والقرآن الكريم كشف عن سوء أحوال كثير منهم وكفانا سورة براءة دليلاً، ونحن ما أتينا شيئا إذا؟.

ألا ترى إلى ما أحدثه الطاغية معاوية، وعمرو بن العاص، ومروان وزياد، وابن زياد، ومغيرة بن شعبة، وعمر بن سعد، الذي أبوه من العشرة المبشرة في الجنة على ما زعموا، وطلحة، والزبير، اللّذان بايعا عليّا ونقضا البيعة وحاربا إمامهما مع عائشة في البصرة، وأحدثوا فيها من الجرائم الّتي لا يأتي بها ذو مروءة.

فليت شعري هل كان وجود النبي (صلى الله عليه وآله) بينهم موجباً لنفاق كثير منهم، ثم بعد لحوقه بالرفيق الأعلى بأبي وأمي صار كلّهم عدولاً.

ونحن لم نسمع قط بأن نبياً من الأنبياء أتى قومه وصاروا كلّهم عدولاً، بل الأمر في ذلك بالعكس، والكتاب والسنة بيّنتنا على ذلك، فماذا أنت قائل أيها الأخ المحترم ؟

فأجابني: حقا لقد أتيت بما فيه المقنع فجزاك الله عني خيرا.

ثم قلت: جاء في كتاب الجوهرة في العقائد للشيخ إبراهيم اللوقاني المالكي:

فتابع الصالح ممن سلفا       وجانب البدعة ممن خلفا

قال: نعم هكذا موجود.

قلت: أرشدني من هم السلف الذين يجب علينا اتباعهم ؟ ومن الخَلفْ الذين يجب علينا مخالفتهم؟

قال: السلف هم صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

قلت: إن الصحابة عارض بعضهم بعضا، وجرى ما جرى بينهم مما لا يخفى على مثلكم.

فتوقف برهة ثم قال: هم أصحاب القرون الثلاثة.

قلت له: إذا أنت في جوابك هذا قضيت على المذاهب الأربعة لأنهم خارجون عن القرون الثلاثة.

فتوقف أيضا، ثم قال: ماذا أنت تريد بهذا السؤال؟

قلت: الأمر ظاهر وهو يجب علينا أن نتبع الذين نص عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأن يكونوا قدوة للامة.

قال: ومن هم؟

قلت: علي بن أبي طالب وبنوه الحسن والحسين وأبناء الحسين التسعة (عليهم السلام) آخرهم المهدي (عجل الله فرجه الشريف).

قال: والخلفاء الثلاثة؟

قلت: الخلاف واقع فيهم فالأمة لم تجتمع عليهم وحدث منهم أعمال توجه عليهم النقد.

قال: عجباً، وهذا من رأي الشيعة ؟

قلت: وإن يكن، هل وقع في الصحابة ما ذكرت لكم أم لا.

قال: بلى.

قلت: إذا يجب علينا أن نأخذ بمن اتفقت عليهم الأمة وندع المختلف فيهم، فالشيعة وهم طائفة كبيرة من الإسلام يكثر عددهم عن مائة مليون وهم منتشرون في الدنيا كما تقدم وفيهم العلماء الأعاظم والفقهاء الأكابر والمحدثين الأفاضل. .. . فلم يعترفوا بخلافة الثلاثة.

ولكن أهل السنة والجماعة اعترفوا بخلافة أمير المؤمنين(عليه السلام)، فخلافة أمير المؤمنين مجمع عليها عند المسلمين عامة وخلافة الثلاثة ليس بمجمع عليها.

والخلافة بعد أمير المؤمنين عليّ إلى ولده الحسن ثم إلى الحسين ثم إلى ولده الأئمة التسعة خاتمهم قائمهم (عجل الله فرجه الشريف) والنصوص في ذلك من كتبكم بكثرة، وجاءت الروايات من طرقكم بفضل أهل البيت وتقدمهم على غيرهم وأهمها العصمة.

قال: نحن لا نقول بالعصمة.

قلت: أعلم ذلك، ولكن الدليل قائم عند الشيعة على ما قلت وسأقدم لك كتابا يقنعك ويرضيك.

قال: إذا ثبت لديَّ عصمتهم انحل الإشكال بيني وبينك، فقدمت له الكتاب، وهو كتاب (الألفين) لاحد أعاظم مجتهدي الشيعة « العلامة الحلي ره »، فأخذ الكتاب يتصفحه في مجلسه فأكبره وأعجبه هذا السفر العظيم.

ثم قال لي: هل تعلم أن فضيلتك أدخلت عليَّ الريب في المذاهب الأربعة وملت إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) لكن أريد منك تزويدي ببعض كتب الشيعة.

فقدمت جملة منها له، ومنها كتب الإمام شرف الدين ودلائل الصدق، والغدير وأمثالها وأرشدته إلى سائر كتب الشيعة.

ثم ودعني وقام شاكرا حامدا قاصدا إلى محله وهو متزلزل العقيدة وذهب، ثم بعد أيام أتتني رسالة شكر منه من الأزهر الشريف وأخبرني فيها بأنه قد اعتنق مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وصار شيعيا، ووعدني أن يكتب رسالة في أحقية مذهب الشيعة.

المصدر: مجلة اليقين، الأعداد (12)، (13) الصفحة (8 - 9).