إن رجلاً من الأنصار يدعى ثعلبة بن حاطب، وكان رجلاً فقيراً يختلف إلى المسجد دائما، وكان يُصرُّ على النبي(صلى الله عليه وآله) أن يدعو له بأن يرزقه الله مالاً وفيراً، فقال له النبي(صلى الله عليه وآله): «قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه». أو ليس الأولى لك أن تتأسّى بنبيّ الله (صلى الله عليه وآله)، وتحيا حياةً بسيطةً وتقنع بها؟
لكن ثعلبة لم يكف ولم يصرف النظر عن أمله، وأخيراً قال للنبي (صلى الله عليه وآله): والذي بعثك بالحق نبياً، لئن رزقني الله لأعطينَّ كل الحقوق وأؤدي كل الواجبات، فدعا له النبي(صلى الله عليه وآله).
فلم يمض زمان - وعلى رواية- حتى توفي ابن عم له، وكان غنياً جداً، فوصلت إليه ثروة عظيمة، وعلى رواية أخرى أنه اشترى غنماً، فلم تزل تتوالد حتى أصبح حفظها ورعايتها في المدينة أمراً غير ممكن، فاضطر أن يخرج إلى أطراف المدينة، فألهته أمواله عن حضور الجماعة، بل وحتى الجمعة.
وبعد مدة أرسل النبي (صلى الله عليه وآله) عاملاً إلى ثعلبة ليأخذ الزكاة منه، غير أن هذا الرجل البخيل الذي عاش للتو حياة الرفاه امتنع من أداء حقوق الله تعالى.
ولم يكتف بذلك، بل اعترض على حكم الزكاة وقال: إن حكم الزكاة كالجزية؛ أي أننا أسلمنا حتى لا نؤدي الجزية، فإذا وجبت علينا الزكاة فأي فرق بيننا وبين غير المسلمين؟
قال هذا في الوقت الذي لم يفهم معنى الجزية ولا معنى الزكاة، أو أنه فهمه، إلا أن حب الدنيا وتعلقه بها لم يسمح له بيان الحقيقة وإظهار الحق، فلمّا بلغ النبي(صلى الله عليه وآله) ما قاله قال: «يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة»[1].
المشهور بين المفسرين أن الآيات 75 إلى 78 من سورة التوبة نزلت في هذه القصة.
قال تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).
يستفاد - من الآيات أعلاه- أن نقض العهود والكذب من صفات المنافقين، فهؤلاء سحقوا جميع العهود المؤكّدة مع ربهم ولم يُعيروها أيَّةَ أهمية، فإنهم يكذبون حتى على ربهم، والحديث المعروف المنقول عن النبي(صلى الله عليه وآله) يؤكد هذه الحقيقة، حيث يقول(صلى الله عليه وآله): «للمنافق ثلاث علامات: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أئتمن خان»[2]. ومن الملفت للنظر وجود هذه العلامات الثلاث مجتمعة في القصة المذكورة - قصة ثعلبة - فإنه كذب، وأخلف وعده، وخان أمانة الله، وهي الأموال التي رزقه الله إياها، وهي في الحقيقة أمانة الله عنده.