وقد يسأل سائل: لماذا قال تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ) ولم يقل: هل مر على الإنسان.
ونجيب:
أولاً: إن كلمة: (هَلْ أَتَى) تشير إلى أن السؤال إنما هو عن الإنسان، أو عن الشيء الموجود والثابت، وأنه هل أتى عليه في الماضي البعيد والمستمر حتى ساعتنا هذه، لحظةٌ أو زمان لم يكن شيئاً مذكوراً؟!
فكلمة (أَتَى) تشير إلى هذا التحول المستمر آناً فآناً، من السابق إلى اللاحق، مع وجود الإنسان في جميع هذه الآنات.
ولو أنه قال: هل مر على الإنسان. فإن مفاده أن ما جعل موضوعاً للكلام قد مر عليه هذا الأمر، ولكن هل هذا الموضوع ـ وهو الإنسان ـ موجود الآن، أو ليس بموجود، بل هو قد زال وانقضى، فهذا ما لا يدل عليه الكلام، فالقدر المتيقن هو مرور هذا الأمر على الشيء الذي جعل موضوعاً في الكلام في وقت سابق.
ولكنك إذا بدلت كلمة: «مرّ»، بكلمة «أتى»، فإن الكلام يدل على ثبات ووجود هذا الإنسان في جميع الآنات التي تسأل عنها، فهو نظير قولك فلان أتى عليه مئة سنة، فالحديث عنه إنما هو في حال كونه لا يزال موجوداً، وحياً يرزق.
ثانياً: إنك حين تأتي بالاسم الظاهر، وتجعله محوراً للكلام، فلا بد أن تأتي بضميره الآتي بعده بصيغة الغائب. فلاحظ قوله: (لَمْ يَكُنْ).
و(نَبْتَلِيهِ)، و(هَدَيْنَاهُ)، فهذه الغيبة في مقام الذكر والخطاب، قد توحي للإنسان الغافل بتوافق الخصوصية اللفظية، وهي الغيبة عن مقام الخطاب والذكر، مع الخصوصية الخارجية، وهي الغيبة في الواقع.
فإذا جاء التعبير بكلمة «مر»، فقد يتأكد هذا الإيحاء الذي ظهر في الأمرين السابقين أيضاً لدى الإنسان الغافل، الذي قد ينساق مع هذا التخيل ليفهم الكلام على أنه حديث عن مخلوق سابق.
أما كلمة (أَتَى)، فقد أزالت كل شبهة في ذلك، وأفهمت: أن موضوع الحديث هو طبيعي هذا الموجود في كل زمان. وليس الحديث عن إنسان مضى.
ثالثاً: ولنفرض أن المراد الحديث عن فترة ما قبل خلق الإنسان.. فذلك لا يفرض أن يكون المراد ب (هَلْ) هو الإثبات.. أو التقرير الذي جوابه الإثبات.. إذ إنه حتى قبل أن يوجد الإنسان، فإنه كان مذكوراً عند الله مذ كان في علمه تعالى. فكل هذا الوجود، بما فيه، قد خلق من أجله، وليكون في خدمته.
وقد خلق الله روح النبي (صلى الله عليه وآله)، وأرواح أهل بيته (عليهم السلام)، وجعلهم بعرشه محدقين، وأشهدهم خلق كل شيء.. ثم أرسل الأنبياء من لدن آدم (عليه السلام) وإلى الخاتم (صلى الله عليه وآله) من أجل هذا الإنسان، وليكونوا له نموذجاً وقادة، وهداة، وأسوة، وقدوة، وأنزل الكتب السماوية، وفرض تعلم العلم، وأوجب تعليمه، ليكون ذلك للبشر منار هداية، وسبيل نجاة.
ثم إنه حين يقترب وقت إفاضة الوجود الفعلي على الإنسان، ليكون حياً، مدركاً، فاعلاً، مختاراً، فإنك تجد أوامر الله تلاحقه، وترشده إلى أن يختار والدته الصالحة من أفضل الأصول، وأطهرها، ويرشده أيضاً إلى كل ما يسهم في إبعاد الأبوين عن كل ما من شأنه أن يلحق أي ضرر في النطفة في ابتداء تكوينه.. ويبين له حتى حالات المقاربة الصحيحة، التي تنتهي بزرع نطفته في رحم أمه، حيث يحرص على منع أبويه مما له أدنى تأثير على روحه، ونفسه وجسده، حتى في احتمالاته البعيدة.
فراجع آداب العلاقة بين الزوجين في توجيهات النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، حتى قبل أن تتكون نطفته، وبعد تكوينها، ثم صيرورته علقة، ثم مضغة، إلى آخر مسيرته في عالم الجنينية، ثم ولادته، وتربيته، ورعايته التامة إلى أن يموت.
إنه في هذه المراحل كلها موضع رعاية الله سبحانه وعنايته، وهو مذكور عنده، ويفهمه أن بناء الكون، وتسييره وتدبيره، يجري وفق الضوابط التي تهيء أفضل المناخات، لإيصاله إلى درجات الفوز والسعادة.
وذلك يعرفنا بعمق معنى قوله تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً).