يمكن لنا بيان فكرة النسخ في القران من خلال النظر في حياتنا الاجتماعية، فإننا نجد في واقعنا الاجتماعي وجود لقوانين ودساتير تنظم علاقات الأفراد مع بعضها وكذا المجتمعات أيضا، ونجد ان هذه القوانين أو الدساتير تجري عليها تعديلات أو تغيرات أو إزالة بين فترة وأخرى، فمرة يلغى قانون ويستبدل بأخر أو مادة من دستور بأخرى، وذلك بحسب ما يستجد من أحداث ووقائع في المجتمعات، فيقال إن هذا الدستور الأخر نسخ (أزال) ذلك الدستور القديم، أو هذه المادة تسخت تالك المادة.
فنلاحظ نسخ مادة لمادة أو قانون لأخر، وهذا الشيء مشابه لفكرة النسخ في القرآن الكريم، ويمكن تصوره بالنسبة للتشريع الالهي، فتكون شريعة سماوية ناسخة لأخرى، أو مادة (حكم) في شريعة سماوية ناسخة لحكم في الشريعة نفسها.
ولكن يوجد فرق بين النسخ في التشريع الإلهي والنسخ في الدساتير والقوانين الوضعية، فنجد أن في القوانين الوضعية
ان التغيير(النسخ) للأحكام والمواد لكونها غير صالحة ناتج عن المحدودية للواضع لها، حيث يكشف ذلك جهل الواضع أو المشرع للقوانين أو الدساتير، فتلغى (تنسخ) تلك الأمور بعد العلم بعدم صلاحيتها أو تحقيقها للهدف أو الغاية التي وٌضعت لها.
أما بالنسبة للتشريع الإلهي فيختلف الحال، وذلك لأن النسخ في الأحكام لا يكون إلّا بعد العلم المسبق بهذا التغيير.
النسخ لغة:
للنسخ معان متعددة ذكرت في كتب اللغة، منها:
الإزالة: (نسخ) الشَّيْء نسخا أزاله يُقَال: نسخت الرّيح آثَار الديار، وَنسخت الشَّمْس الظل، وَنسخ الشيب الشَّبَاب. [أي حل محله].
ومنها، الابطالَ: يُقَال نسخ الْحَاكِم الحكم أَو القانون أبْطلهُ.
ومنها، النقل: ونسخ َالْكتاب نَقله وَكتبه حرفا بِحرف. [المعجم الوسيط: مجموعة من المؤلفين/ج2، ص917].
ونجد أن هناك غير واحدة من الآيات القرآنية نلمس منها معني الازالة، منها قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها...) [البقرة: 106]، وقوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) [الرعد: 39]، وقوله تعالى: (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا انما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون) [النحل: 101].
وقد ذكر السيد الخوئي (قده) تعريفا للنسخ بحسب اللغة، حيث قال:
هو الاستكتاب، كالاستنساخ والانتساخ، وبمعنى النقل والتحويل، ومنه تناسخ المواريث والدهور، وبمعنى الازالة، ومنه نسخت الشمس الظل، وقد كثر استعماله في هذا المعنى في ألسنة الصحابة والتابعين فكانوا يطلقون على المخصص والمقيد لفظ الناسخ [البيان في تفسير القرآن: الخوئي، السيد أبو القاسم، الجزء: 1، صفحة: 277].
النسخ اصطلاحا:
هناك العديد من التعاريف للنسخ ذكرها الاصوليون، منها ما ذكره السيد الخوئي (قده) حيث قال: النسخ: رفع أمر ثابت في الشريعة المقدسة بارتفاع أمده وزمانه سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفية - كالوجوب والحرمة - أم من الأحكام الوضعية كالصحة والبطلان، وسواء أكان من المناصب الإلهية أم من غيرها من الأمور التي ترجع إلى الله تعالى بما انه شارع. [البيان للسيد الخوئي: 277. طبعة دار الزهراء - بيروت.].
ويلاحظ في هذا التعريف أن الرفع في النسخ انما يكون لأمر ثابت في أصل الشريعة، وعلى هذا فإن الحكم الشرعي إذا ارتفع بسبب انتهاء موضعه غير داخل في هذا التعريف، فمثلا بانتهاء شهر رمضان يرتفع وجوب الصوم، وكذا ارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها، لذا لا يعد هذا النوع من النسخ في شيء.
وقد أوضح السيد الخوئي (رحمه الله) لنا الفرق بين الارتفاع الذي يكون نسخا، والارتفاع الذي لا يكون من النسخ في شيء وذلك بالبيان التالي:
ان الحكم المجعول في الشريعة المقدسة له مرحلتان من الثبوت:
أحدهما: ثبوت ذلك الحكم في عالم التشريع والانشاء، والحكم في هذه المرحلة يكون مجعولا على نحو القضية الحقيقية، ولا فرق في ثبوتها بين وجود الموضوع في الخارج وعدمه، وإنما يكون قوام الحكم بفرض وجود الموضوع. فإذا قال الشارع: شرب الخمر حرام ـ مثلا ـ فليس معناه أن هنا خمرا في الخارج. وأن هذا الخمر محكوم بالحرمة، بل معناه أن الخمر متى ما فرض وجوده في الخارج فهو محكوم بالحرمة في الشريعة سواء أكان في الخارج خمر بالفعل أم لم يكن، ورفع هذا الحكم في هذه المرحلة لا يكون إلا بالنسخ.
وثانيهما: ثبوت ذلك الحكم في الخارج بمعنى أن الحكم يعود فعليا بسبب فعلية موضوعه خارجا، كما إذا تحقق وجود الخمر في الخارج، فإن الحرمة المجعولة في الشريعة للخمر تكون ثابتة له بالفعل، وهذه الحرمة تستمر باستمرار موضوعها، فإذا انقلب خلا فلا ريب في ارتفاع تلك الحرمة الفعلية التي ثبتت له في حال خمريته، ولكن ارتفاع هذا الحكم ليس من النسخ في شيء، ولا كلام لاحد في جواز ذلك ولا في وقوعه.
امكان النسخ:
المعروف بين العقلاء من المسلمين وغيرهم هو جواز النسخ بالمعنى المتنازع فيه رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والانشاء.
النسخ في الشريعة الاسلامية:
لا خلاف بين المسلمين في وقوع النسخ، فإن كثيرا من أحكام الشرائع السابقة قد نسخت بأحكام الشريعة الاسلامية، وإن جملة من أحكام هذه.
فقد قسموا النسخ في القرآن إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ نسخ التلاوة دون الحكم: ويقصد به ان هناك آية نزلت على النبي (صلى الله عليه واله) ثم نسخت تلاوتها وايضا نصها اللفظي من المصحف، الا ان ما تضمنته من حكم باق، وقد مثلوا لذلك بآية الرجم التي رويت عن عمر بن الخطاب، وهذا القول باطل من عدة وجوه، منها ما ذكره السيد الخوئي(قده) من ان: مستند هذا القول أخبار آحاد وأن أخبار الاحاد لا أثر لها في أمثال هذا المقام، وقد اتفق العلماء أجمع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد، وقد صرح بذلك جماعة في كتب الاصول وغيرها بل قطع الشافعي يذلك. [البيان في تفسير القرآن: الخوئي، السيد أبو القاسم الجزء: 1، صفحة: 206].
٢ ـ نسخ التلاوة والحكم: ويقصد به ان هناك آية نزلت على النبي (صلى الله عليه واله) ثم نسخت تلاوتها وحكمها معا من القرآن الكريم، وقد مثلوا لهذا القول بآية الرضاعة التي روتها عائشة كما في كتاب صحيح مسلم: ج4. وهذا القول كالقسم الاول من البطلان.
٣ ـ نسخ الحكم دون التلاوة: ويقصد فيه نسخ[رفع]مضمون الآية مع بقاء صياغتها وطريقة التعبير فيها. وقد ورد عن السيد الخوئي (قده) قوله:
وهذا القسم هو المشهور بين العلماء والمفسرين، وقد ألف فيه جماعة من العلماء كتبا مستقلة، وذكروا فيها الناسخ والمنسوخ. منهم العالم الشهير أبو جعفر النحاس، والحافظ المظفر الفارسي، وخالفهم في ذلك بعض المحققين، فأنكروا وجود المنسوخ في القرآن. وقد اتفق الجميع على إمكان ذلك، وعلى وجود آيات من القرآن ناسخة لأحكام ثابتة في الشرائع السابقة، ولأحكام ثابتة في صدر الاسلام.
ولتوضيح ما هو الصحيح في هذا المقام نقول: إن نسخ الحكم الثابت في القرآن يمكن أن يكون على أقسام ثلاثة:
1 ـ إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بالسنة المتواترة، أو بالإجماع القطعي الكاشف عن صدور النسخ عن المعصوم عليه السلام وهذا القسم من النسخ لا إشكال فيه عقلا ونقلا، فإن ثبت في مورد فهو المتبع، وإلا فلا يلتزم بالنسخ، وقد عرفت أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد.
2 ـ إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بآية أخرى منه ناظرة إلى الحكم المنسوخ، ومبينة لرفعه، وهذا القسم أيضا لا إشكال فيه، وقد مثلوا لذلك بآية النجوى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ٥٨: ١٢]. فقد استفاضت الروايات من الطريقين: أن الآية المباركة لما نزلت لم يعمل بها غير عليّ عليه السلام فكان له دينار فباعه بعشرة دراهم، فكان كلما ناجى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قدم درهما حتى ناجاه عشر مرات.
3 ـ إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بآية أخرى غير ناظرة إلى الحكم السابق، ولا مبينة لرفعه، وإنما يلتزم بالنسخ لمجرد التنافي بينهما فيلتزم بأن الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة.
والتحقيق: أن هذا القسم من النسخ غير واقع في القرآن، كيف وقد قال الله عز وجل:
«أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ٤: ٨٢».
ولكن كثيرا من المفسرين وغيرهم لم يتأملوا حق التأمل في معاني الآيات الكريمة، فتوهموا وقوع التنافي بين كثير من الآيات، والتزموا لأجله بأن الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة، والتزموا بالنسخ في هذه الموارد وما يشبهها، ومنشأ هذا قلة التدبر، أو التسامح في إطلاق لفظ النسخ بمناسبة معناه اللغوي، واستعماله في ذلك وإن كان شائعا قبل تحقق المعنى المصطلح عليه، ولكن إطلاقه ـ بعد ذلك ـ مبني على التسامح لا محالة. [البيان في تفسير القرآن: الخوئي، السيد أبو القاسم، الجزء: 1، صفحة: 287].
والحمد لله