هناك بعض الأحداث الهامة، والمواقف الحساسة، التي تحمل في طياتها الكثير من العبر والعظات، وتترك لها آثاراً بارزة على الفكر الإنساني، والرسالي، وعلى الفهم الدقيق للمسار العام في خط الرسالة.. هذا مضافا إلى تأثيرها في البنية العقائدية، والسلوك الإنساني في مختلف مراحله وأدواره.
ولا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا: إن غزوة بني النضير كانت واحدة من هذه الأحداث، فهي حدث فريد ومتميز، لا يقل في أهميته عن أي من الأحداث الكبرى في العهد النبوي الشريف.. ولا أدل على ذلك من أنهم يقولون: إن سورة الحشر - بتمامها - قد نزلت في هذه المناسبة.. وهذا يبرهن على الأهمية البالغة لهذه الواقعة، وعلى أنها كانت تمثل تحولاً كبيراً وإيجابياً، في مسيرة العمل والعاملين في سبيل الله سبحانه من جهة.. كما أنها تعتبر - من الجهة الأخرى - ضربة قاسية وقاصمة لأعداء الله، وأعداء دينه من الكافرين..
فقد كان اليهود - الذين كان بنو النضير أقواهم شوكة، وأشدهم شكيمة، وأعزهم مكانا - يعيشون في قلب الدولة الإسلامية، وحيث كان بإمكانهم الاطلاع على أدق دقائقها، وعلى حقائق خفاياها ونواياها، ثم الوقوف على المستوى الحقيقي والدقيق لما تملكه من قدرات وإمكانات مادية ومعنوية. كما أنهم - أعني اليهود - كانوا يملكون أذرعا ظاهرة وخفية، ممتدة هنا وهناك، وفي عمق المجتمع الإسلامي الجديد، ثم إن لليهود الهيمنة الروحية والثقافية والعلمية على الأكثرية الساحقة.
هذا.. وعلينا أن لا ننسى أن اليهود كانوا يملكون قوة كبيرة في حساب الثروات والأموال.. بالإضافة إلى ما كان لليهود من ديون على الناس، قد بلغت حداً جعلهم يجدون فيها حائلاً دون تسهيل أمر رحيلهم..
وعلينا أن لا ننسى أيضا: أن هذه الضربة القاسية والقاصمة التي تلقاها اليهود عامة، وبنو النضير بصورة خاصة، إنما تمثل إضعافاً لواحد من أهم مصادر القوة والتحدي لدى أعداء الإسلام والمسلمين، ولا سيما بالنسبة إلى المشركين، وكل من يتعاطف معهم من القبائل والطوائف في المنطقة العربية، حيث خسروا واحداً من أهم حلفائهم، وذوي القوة والنفوذ فيهم.
اليهود في المدينة:
كان في المدينة ثلاث قبائل من اليهود وهم: «بنو النضير» و «بنو قريظة» و «بنو قينقاع»، ويُذكر أنهم لم يكونوا من أهل الحجاز أصلا، وإنما قدموا إليها واستقرّوا فيها، وذلك لما قرأوه في كتبهم العقائدية من قرب ظهور نبي في أرض المدينة، حيث كانوا بانتظار هذا الظهور العظيم، وعندما هاجر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة عقد معهم عهداً بعدم تعرض كل منهما للآخر، إلا أنهم كلما وجدوا فرصة مناسبة لم يألوا جهدا في نقض العهد، ومن جملة هؤلاء اليهود (بنو النضير)، فقد تصالح معهم النبي (صلى الله عليه وآله) لمّا دخل المدينة على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه.
مؤامرات بني النضير ونقضهم للعهد:
المؤامرة الأولى: لما غزا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بدرا وظهر على المشركين قالوا: والله إنه للنبي الذي وجدنا نعته في التوراة لا ترد له راية، فلما غزا (صلى الله عليه وآله) غزوة أحد في السنة الثالثة للهجرة وهُزِم المسلمون ارتابوا ونقضوا العهد، فذهب «كعب بن الأشرف زعيم قبيلة بني النضير» مع أربعين فارسا من اليهود إلى مكة، وهنالك عقد مع قريش حلفا لقتال محمد (صلى الله عليه وآله)، وجاء أبو سفيان مع أربعين شخصا، وكعب بن الأشرف مع أربعين نفرا من اليهود، ودخلا معا إلى المسجد الحرام وأخذ بعضهم على بعض الميثاق ووثّقوا العهد في داخل الكعبة ثم رجع كعب بن الاشراف وأصحابه إلى المدينة، فعَلِم النبيُّ (صلى الله عليه وآله) بذلك عن طريق الوحي.
والمؤامرة الأخرى هي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) دخل يوما مع شيوخ الصحابة وكبارهم إلى حي بني النضير، وذلك بحجة استقراض مبلغ من المال منهم كدية لقتيلين من طائفة بني عامر، قتلهما (عمرو بن أمية) أحد المسلمين، وربما كان الهدف من ذلك هو معرفة أخبار اليهود عن قُرب حتى لا يُباغَت المسلمون بذلك، وبينما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتحدث مع كعب بن الأشرف إذ حيكت مؤامرة يهودية لاغتيال رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتنادى القوم: إنكم لا تحصلون على هذا الرجل بمثل هذه الحالة وهاهو قد جلس بالقرب من حائطكم، فليذهب أحدكم إلى السطح ويرميه بحجر عظيم ويريحنا منه، فقام «عمرو بن جحاش» وأبدى استعداده لتنفيذ الأمر، وذهب إلى السطح لتنفيذ عمله الإجرامي، إلا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) علم عن طريق الوحي بذلك، فقفل راجعا إلى المدينة دون أن يتحدث بحديث مع أصحابه، إلا أن الصحابة تصوروا أن الرسول (صلى الله عليه وآله) سيعود مرة أخرى، ولما عرفوا فيما بعد أن الرسول (صلى الله عليه وآله) في المدينة عاد الصحابة إليها أيضا.
وهنا أصبح من المسلّم لدى رسول الله (صلى الله عليه وآله) نقض اليهود للعهد، فأعطى أمرا للاستعداد والتهيؤ لقتالهم، وجاء في بعض الروايات أيضا أن أحد شعراء بني النضير هجا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشعر يتضمن مسا ّبكرامة الرسول (صلى الله عليه وآله) وهذا دليل آخر لنقضهم العهد.
مواجهة المسلمين لبني النضير وحصارهم:
وبدأت خطة المسلمين في مواجهة اليهود وكانت الخطوة الأولى أنْ أمَر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ( محمد بن سَلَمَه )أن يقتل كعب بن الأشرف زعيم اليهود، وقد كان أخاه من الرضاعة، وقد نفّذ هذا العمل وقتله.
إن قتل كعب بن الأشرف أوجد هزة وتخلخلا في صفوف اليهود، عند ذلك أعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمرا للمسلمين أن يتحركوا لقتال هذه الفئة الباغية الناقضة للعهد، وعندما علم اليهود بهذا لجئوا إلى قلاعهم المحكمة وحصونهم القوية، وأحكموا الأبواب، وفي هذه الأثناء أمر الرسول (صلى الله عليه وآله) بقلع أشجار النخيل القريبة من القلاع لأسباب عدة:
منها: أن حب اليهود لأموالهم قد يخرجهم من قلاعهم بعد رؤية تلف ممتلكاتهم، وبالتالي يكون اشتباك المسلمين معهم مباشرة، كما يوجد احتمال آخر، وهو أن هذه الأشجار كانت تضايق المسلمين في مناوراتهم مع اليهود قرب قلاعهم وكان لابد من أن تقلع.
وعلى كل حال، فقد ارتفع صوت اليهود عندما شعروا بالضيق، وهم محاصرون في حصونهم.. فقالوا: يا محمد، لقد كنت تنهى عن هذا، فما الذي حدا بك لتأمر قومك بقطع نخيلنا؟
فنزل قوله تعالى: (إمَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) [1] وبيَّن بأن هذا العمل لم يكن عن هوى نفس بل هو أمر من الله (عزّوجلّ) صدر في هذا المجال، وفي دائرة محدودة لكي لا تكون الخسائر فادحة، وهذا العمل كان استثناء من الأحكام الإسلامية الأوّلية التي تنهي عن قطع الأشجار وقتل الحيوانات وتدمير وحرق المزارع... وعادة ما توجد استثناءات جزئية في كل قانون، كما في جواز أكل لحم الميت عند الضرورة القصوى والإجبار[2].
دور أمير المؤمنين (عليه السلام) في غزوة بني النضير:
ينقل الشيخ المفيد[3] أنه لما توجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى بني النضير، عمل على حصارهم، فضرب قبته في أقصى بني حطمة[4] من البطحاء، فلما أقبل الليل رماه رجل من بني النضير بسهم فأصاب القبة، فأمر النبي (صلى الله عليه وآله) أن تحول قبته إلى السفح، وأحاط به المهاجرون والأنصار، فلما اختلط الظلام فقدوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال الناس: يا رسول الله، لا نرى عليا؟ فقال (صلى الله عليه وآله): ((أراه في بعض ما يصلح شأنكم)) فلم يلبث أن جاء برأس اليهودي الذي رمى النبي (صلى الله عليه وآله)، وكان يقال له عزورا، فطرحه بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) : ((كيف صنعت؟))، فقال (عليه السلام): ((إني رأيت هذا الخبيث جريئا شجاعا، فكَمِنتُ له وقلت ما أجرأه أن يخرج إذا اختلط الظلام، يطلب منا غرة، فأقبل مُصلتا سيفه في تسعة نفر من أصحابه اليهود، فشددت عليه فقتلته، وأفلت أصحابه، ولم يبرحوا قريبا، فابعث معي نفرا فإني أرجو أن أظفر بهم)). فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) معه عشرة فيهم أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، فأدركوهم قبل أن يلِجوا الحصن، فقتلوهم وجاءوا برؤوسهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فأمر أن تطرح في بعض آبار بني حطمة. وكان ذلك سبب فتح حصون بني النضير.
وفيما كان من أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذه الغزوة، وقتله اليهودي، ومجيئه إلى النبي (صلى الله عليه وآله)
برؤوس التسعة النفر، يقول الشاعر:
لله أي كريمة أبليتها ببني النضير والنفوس تطلع
أردى رئيسهم وآب بتسعة طورا يشلهم (أي يطردهم) وطورا يدفع
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أمير المؤمنين (عليه السلام) في يوم بني النضير: ((عليٌّ إمام البررة، وقاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله))[5].
انتهاء المحاصرة:
استمرت المحاصرة لعدة أيام، ومنعا لسفك الدماء اقترح رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليهم أن يتركوا ديارهم وأراضيهم ويرحلوا من المدينة، فوافقوا على هذا وحملوا مقدارا من أموالهم تاركين القسم الآخر.. واستقرّ قسم منهم في «أذرعات الشام»، وقليل منهم في «خيبر»، وجماعة ثالثة في «الحيرة»، وتركوا بقية أموالهم وأراضيهم وبساتينهم وبيوتهم بيد المسلمين بعد أن قاموا بتخريب ما يمكن لدى خروجهم منها.
وقد حدثت هذه الحادثة بعد غزوة (أحد) بستة أشهر، إلا أن آخرين قالوا: إنها وقعت بعد غزوة بدر بستة أشهر.
غزوة بني النضير في سورة الحشر:
كان ابن عباس يُسمّي سورة الحشر سورة بني النضير، وقال القمي في تفسيره[6]: وأنزل الله فيهم: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهل الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ الله فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا الله وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ الله فَإِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ * مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ).
(حشر) في الأصل تحريك جماعة وإخراجها من مقرها إلى ميدان حرب وما إلى ذلك، والمقصود منه هنا اجتماع وحركة المسلمين من المدينة إلى قلاع اليهود، أو اجتماع اليهود لمحاربة المسلمين، ولأن هذا أول اجتماع من نوعه فقد سُمِّي في القرآن الكريم بأول الحشر.
ويضيف البارئ عز وجل: (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ الله) لقد كانوا مغرورين وواثقين بأنفسهم إلى حد أنهم اعتمدوا على حصونهم المنيعة، وقدرتهم المادية الظاهرية، إن التعبير الذي ورد في الآية يوضح لنا أن يهود بني النضير كانوا يتمتعون بإمكانات واسعة وتجهيزات وعدد كثيرة في المدينة، بحيث إنهم لم يصدّقوا أنهم سيُغلبون بهذه السهولة، وذلك ظنّ الآخرين أيضا، ولأن الله سبحانه يريد أن يوضح للجميع أن لا قوة في الوجود تقاوم إرادته، فإن إخراج اليهود من أراضيهم وديارهم بدون حرب، هو دليل على قدرته سبحانه، وتحدٍ لليهود الذين ظنوا أن حصونهم مانعتهم من الله، ولذلك يضيف تعالى ويقول: (فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) نعم، إن هذا الجيش غير المرئي هو جيش الخوف الذي يرسله الله تعالى في كثير من الحروب لمساعدة المؤمنين، فقد تملّكم وهيمن على قلوبهم، وسلب منهم قدرة الحركة والمقاومة، لقد جهّزوا وهيئوا أنفسهم لقتال المهاجرين والأنصار غافلين عن إرادة الله تعالى، حيث يرسل لهم جيشا من داخلهم ويجعلهم في مأزق حرج إلى حد ينهمكون فيه بتخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم من المسلمين.
والطريف هنا أن المسلمين كانوا يخربون الحصون من الخارج ليدخلوا إلى عمق قلاعهم، واليهود كانوا يخربونها من الداخل حتى لا يقع شيء مفيد منها بأيدي المسلمين، ونتيجة لهذا فقد عم الخراب التام جميع قلاعهم وحصونهم.
وفي نهاية الآية يقول تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) أي خذوا الدروس والعظات من هذه الحوادث وتعاملوا معها بعين واقعية وتوغلوا إلى أعماقها. فإنّ (أُولِي الْأَبْصَارِ) هم أشخاص لهم القابلية على الاستفادة من (العبر) والاتعاظ بها، يقول الإمام علي (عليه السلام): السعيد من وعظ بغيره[7].
وعلى كل حال فإن مصير بني النضير مع تلك القدرة والعظمة والشوكة، وبتلك الصورة من الاستحكامات القوية، صار موضع عِبرة حيث إنهم استسلموا لجماعة من المسلمين لا تقارن قواتها بقواتهم، وبدون مواجهة مسلحة، بحيث كانوا يخربون بيوتهم بأيديهم وتركوا بقية أموالهم للمسلمين، وتفرقوا في
بقاع عديدة من العالم، في حين أن اليهود سكنوا في المدينة من أجل أن يدركوا النبي الموعود الذي ورد في كتبهم، ويكونوا في الصف الأول من أعوانه كما ذكر المؤرخون ذلك. وبهذا الصدد نقرأ حديثا ورد عن الإمام الصادق حيث يقول: كان أكثر عبادة أبي ذر (رحمة الله عليه) خصلتين: التفكر والاعتبار[8].
وتضيف الآية اللاحقة (وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا). فإن الجلاء عن الوطن وترك قسم كبير من رؤوس الأموال التي جهدوا جهدا بليغا في الحصول عليها بأيدي أعدائهم، هو بحد ذاته أمر مؤلم لهم، إلا أنه لو لم يحل بهم هذا العذاب، لكان بانتظارهم عذاب آخر هو القتل أو الأسر بيد المسلمين... إلا أن الله سبحانه أراد لهم التيه في الأرض والتشرد في العالم، لأن هذا أشد ألما وأسى على نفوسهم، إذ كلما تذكروا أرضهم وديارهم ومزارعهم وبساتينهم التي أصبحت بيد المسلمين، وكيف أنهم شُرّدوا منها بسبب نقضهم العهد ومؤامراتهم ضد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإن ألمهم وحزنهم ومتاعبهم تتضاعف وخاصة على المستوى النفسي، نعم، إن الله أراد لهذه الطائفة المغرورة والخائنة، أن تبتلى بمثل هذا المصير البائس، وكان هذا عذابا دنيويا لهم، إلا أن لهم جولة أخرى مع عذاب أشد وأخزى، ذلك هو عذاب الآخرة، حيث يضيف سبحانه في نهاية الآية (وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ)، هذه عاقبتهم في الدنيا والآخرة، وهي درس بليغ لكل من أعرض عن الحق والعدل وركب هواه، وغرته الدنيا وأعماه حب ذاته.
وبما أن ذكر هذه الحادثة مضافا إلى تجسيد قدرة الله وصدق الدعوة المحمدية، فهي في نفس الوقت تمثل إنذارا وتنبيها لكل من يروم القيام بأعمال مماثلة لفعل بني النضير، لذا ففي الآية اللاحقة يرشدنا سبحانه إلى هذا المعنى:
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا الله وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ الله فَإِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ).
ومما ينبغي ذكره في هذه الحادثة أن الله عز وجل جعل أموال بني النضير لرسول الله (صلى الله عليه وآله) خاصة يفعل بها ما يشاء ولكن النبي (صلى الله عليه وآله) قال للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم، ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة؟
فقال الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا، ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها، فنزل قوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ الله وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [9]
فقسمها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئا، إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم: أبو دجانة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة[10].
لتحميل الملف اضغط هنا
[1] سورة الحشر: آية 5.
[2] الأمثل ج18/ص163-174.
[3] الإرشاد للشيخ المفيد، ج1/ص92.
[4] حطمة من الأنصار بنو عبد الله بن مالك بن أوس.
[5] كنز العمال ج 6 ص 153.
[6] تفسير القمي: ج2، ص358.
[7] الكافي للشيخ الكليني: ج8، ص74.
[8] الخصال للشيخ الصدوق: ص42 ، ح33.
[9] سورة الحشر: الآيات 8 - 9.
[10] مجمع البيان ج9، ص391.