الابتلاء

بسم الله الرحمن الرحيم

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)

قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)[1].

يشير سبحانه في هذه الآية إلى الهدف من خلق الإنسان وموته وحياته، وهي من شؤون مالكيته وحاكميته تعالى ((الموت)): حقيقته الانتقال من عالم إلى عالم آخر، وهذا الأمر وجودي يمكن أن يكون مخلوقا، لأن الخلقة ترتبط بالأمور الوجودية، وهذا هو المقصود من الموت في الآية الشريفة، أما الموت بمعنى الفناء والعدم فليس مخلوقا، لذا فإنه غير مقصود.

ثم إن ذكر الموت هنا قبل الحياة هو بلحاظ التأثير العميق الذي يتركه الالتفات إلى الموت، وما يترتب على ذلك من سلوك قويم وأعمال مقترنة بالطاعة والالتزام.

قول الله سبحانه: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ((ليبلوكم)) كلمة مشتقة من مادة ((البلاء)) و((الابتلاء)) ومعناها الاختبار والامتحان. أي ليختبركم ويمتحنكم أيّكم الأفضل والأحسن عملا بهذه الدار الدنيا.

 كما أن الجدير بالملاحظة في قوله ((أحسن عملا)) هو التأكيد على جانب (حسن العمل)، ولم تؤكد الآية على كثرته، وهذا دليل على أن الإسلام يعير اهتماما (للكيفية) لا (للكمية)، فالمهم أن يكون العمل خالصا لوجهه الكريم، ونافعا للجميع حتى ولو كان محدود الكمية.

لذا ورد في تفسير (أحسن عملا)، روايات عدة، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: ((أتمّكم عقلا، أشدّكم لله خوفا، وأحسنكم فيما أمر الله به، ونهى عنه نظرا، وإن كان أقلّكم تطوعا))[2].

حيث أن العقل الكامل يطهّر العمل، ويجعل النية أكثر خلوصا لله عز وجل ويضاعف الأجر.               وجاء في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال حول تفسير (أحسن عملا): ((ليس يعني أكثر عملا، ولكن أصوبكم عملا، وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة. ثم قال: الإبقاء على العمل حتى يخلص، أشد من العمل، والعمل الخالص هو الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز وجل[3].

 ومن هنا نعلم أن العالم ميدان الامتحان الكبير لجميع البشر، ووسيلة هذا الامتحان هو الموت والحياة، والهدف منه هو الوصول إلى حسن العمل الذي مفهومه تكامل المعرفة، وإخلاص النية، وإنجاز كل عمل خير.

 وإذا لاحظنا أن بعض المفسرين فسّر (أحسن عملا) بمعنى ذكر الموت أو التهيؤ وما شابه ذلك، وهذا في الحقيقة إشارة إلى مصاديق من المعنى الكلي.

 وبما أن الإنسان يتعرض لأخطاء كثيرة في مرحلة الامتحان الكبير الذي يمر به، فيجدر به ألا يكون متشائما ويائسا من عون الله سبحانه ومغفرته له، وذلك من خلال العزم على معالجة أخطائه ونزواته النفسية وإصلاحها، حيث يقول تعالى: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ). نعم، إنه قادر على كل شيء، وغفار لكل من يتوب إليه[4].

الهدف من الخلق:

 في الوقت الذي لا يعترف الماديون بهدف للخلق، لأنهم يعتقدون أن الطبيعة الفاقدة للعقل والشعور والهدف هي التي ابتدأت الخلق، ولهذا فإنهم يؤيدون اللغوية وعدم الفائدة في مجموعة الوجود، فإن الفلاسفة الإلهيين وإتباع الأديان

جميعا يعتقدون بوجود هدفٍ سامٍ للمخلوقات، لأن المُبدئ للخلق قادر وحكيم وعالم، فمن المستحيل أن يقوم بعمل لا فائدة فيه.

وهنا ينقدح هذا السؤال: ما هو الهدف من الخلق؟

 يشير القرآن المجيد إشارات قصيرة عميقة المعنى جداً في آيات مختلفة إلى وجود هدف معين من الخلق من جهة، ومن جهة أخرى فإنه يشخّص هذا الهدف ويوضحه.

ففي الجانب الأول- وجود هدف معين من الخلق- يقول تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ)[5]، ويقول تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)[6].

وفي الجانب الآخر- تشخيص الهدف من الخلق -، فإنه جعل هدف الخلق في بعض الآيات عبودية الله وعبادته: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[7]، ومن البديهي أن العبادة منهج لتربية الإنسان في الأبعاد المختلفة، العبادة بمعناها الشمولي التي هي التسليم لأمر الله ستهب روح الإنسان تكاملا في الأبعاد المختلفة.

ويقول أحيانا: إن الهدف من الخلقة هو إيقاظكم وتوعيتكم وتقوية إيمانكم واعتقادكم: (الله الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ....)[8].

ويقول تارة: إن الهدف من الخلق هو اختبار حسن عملكم: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)[9].

إن الآيات الثلاث آنفة الذكر والتي يشير كل منها إلى بعد من أبعاد وجود الإنسان الثلاث - بُعد الوعي والإيمان، وبُعد الأخلاق، وبُعد العمل - تبيّن هدف الخلق التكاملي الذي يعود على الإنسان نفسه.

وهنا ينقدح سؤال، وهو: إذا كان الهدف هو التكامل، فلماذا لم يخلق الله الإنسان كاملا منذ البداية حتى لا يكون محتاجا إلى طيِّ مراحل التكامل؟

وفي جوابه نقول: إن العنصر الأصلي للتكامل هو التكامل الاختياري، وبتعبير آخر: إن التكامل يعني أن يطوي الإنسان الطريق بنفسه وإرادته وتصميمه، فإذا أخذوا بيده وأوصلوه بالقوة والجبر فليس هذا افتخارا ولا تكاملا.

ولذلك صرح القرآن بهذه الحقيقة في الآيات المختلفة، وهي أن الله سبحانه لو شاء لأجبر الناس على أن يؤمنوا، إلا أن هذا الإيمان لا نفع فيه لهؤلاء: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا)[10]. [11]

وقد يسأل البعض ويقول: ما معنى امتحان الله تعالى للناس واختبارهم؟

والجواب: ليس الهدف من الامتحانات الإلهية معرفة النفس وكشف الحالة التي عليها الإنسان في محتواه الداخلي وفي فكره وروحه وأن يعلم سبحانه به لان علمه تعالى ازلي ومحيط بكل شيء قبل إيجاده، وانما الهدف من الامتحان تربية الإنسان كي يجسّد الاستقامة والتقوى والطهر في الميدان العملي ليكون لائقا للقرب من الله سبحانه.

أشد الناس ابتلاءاً:

ورد في بعض الاخبار أن الانسان كلما زاد ايمانه زاد بلاؤه، فقد ورد عن الامام الصادق (عليه السلام): (إِنَّ فِي كِتَابِ عَلِيٍّ (عليه السلام): أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ بَلَاءً النَّبِيُّونَ ثُمَّ الْوَصِيُّونَ ثُمَّ الأمثل فَالأمثل وإِنَّمَا يُبْتَلَى الْمُؤْمِنُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِه الْحَسَنَةِ فَمَنْ صَحَّ دِينُه وحَسُنَ عَمَلُه اشْتَدَّ بَلَاؤُه وذَلِكَ أَنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لَمْ يَجْعَلِ الدُّنْيَا ثَوَاباً لِمُؤْمِنٍ ولَا عُقُوبَةً لِكَافِرٍ ومَنْ سَخُفَ دِينُه وضَعُفَ عَمَلُه قَلَّ بَلَاؤُه وأَنَّ الْبَلَاءَ أَسْرَعُ إِلَى الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ مِنَ الْمَطَرِ إِلَى قَرَارِ الأَرْضِ)[12].

وقد تسأل: لماذا يشتد البلاء على الانبياء والاوصياء والمؤمنين؟

ويمكن أن نقول: إن لذلك جملة من الاسباب، منها:

1- لتنفيرهم وابعادهم عن الدنيا، وتقريبهم من الآخرة، فقد ورد عن الامام الباقر (عليه السلام): (إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لَيَتَعَاهَدُ الْمُؤْمِنَ بِالْبَلَاءِ كَمَا يَتَعَاهَدُ الرَّجُلُ أَهْلَه بِالْهَدِيَّةِ مِنَ الْغَيْبَةِ ويَحْمِيه (أي يمنعه) الدُّنْيَا كَمَا يَحْمِي الطَّبِيبُ الْمَرِيضَ)[13].

2- توفير سبب الانقطاع الى الله تعالى.

3- إن للمؤمنين درجات لا ينالونها إلا من وراء المصائب والاسقام والآلام، فقد ورد عن الامام الصادق (عليه السلام): (إِنَّه لَيَكُونُ لِلْعَبْدِ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ الله فَمَا يَنَالُهَا إِلَّا بِإِحْدَى خَصْلَتَيْنِ إِمَّا بِذَهَابِ مَالِه أَوْ بِبَلِيَّةٍ فِي جَسَدِه)[14].

وقد ورد أن الامام الحسين (عليه السلام) عندما همَّ بالخروج من أرض الحجاز إلى أرض العراق، فلما أقبل الليل راح إلى مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) ليودّع القبر، فلما وصل إلى القبر سطع له نور من القبر فعاد إلى موضعه، فلما كانت الليلة الثانية راح ليودع القبر، فقام يصلي فأطال، فنعس وهو ساجد، فجاءه النبي (صلى الله عليه وآله) وهو في منامه، فأخذ الحسين (عليه السلام) وضمه إلى صدره، وجعل يقبل بين عينيه، ويقول: بأبي أنت، كأني أراك مرملا بدمك بين عصابة من هذه الأمة، يرجون شفاعتي، مالهم عند الله من خلاق، يا بني إنك قادم على أبيك وأمك وأخيك، وهم مشتاقون إليك، وإن لك في الجنة درجات لا تنالها إلا بالشهادة. فانتبه الحسين (عليه السلام) من نومه باكيا، فأتى أهل بيته، فأخبرهم بالرؤيا وودعهم، وخرج ومعه عياله وبعض اصحابه[15].

مجلة بيوت المتقين العدد (37)

 


[1] سورة الملك: 2.

[2] مجمع البيان، ج 10، ص 322.

[3] تفسير الصافي، الآيات مورد البحث.

[4] الأمثل: ج18، ص477-479.

[5] المؤمنون: 115.

[6] سورة ص: 27.

[7] الذاريات: 56.

[8] الطلاق: 12.

[9] الملك: 2.

[10] يونس، 99.

[11] الأمثل: ج10، ص138-141.

[12] الكافي: ج2، ص259.

[13] الكافي: ج2، ص255.

[14] الكافي: ج2، ص257.

[15] الأمالي، الشيخ الصدوق: ص217.