أدب المعاملة

اجعل عَمَلك مِلحاً وأَدَبَك دقيقاً

الأدب لغةً: هو الظَرَفُ وحُسْن التناول، يُقال: تأدّب الغلام في كلامه مع أبيه؛ أي: تحاشى الكلامَ الخارج عن حدود الأدب، وسُمِّيَ الأدب أدباً لأنه يُوجّه الناسَ إلى المحامد وينهاهم عن القبائح، وأصل الأدب الدعاء، ومنه قيل للطعام الذي يُدعى إليه الناس: مَدْعاة ومَأْدُبَة[1].

والأدب الذي يعنينا الآن هو الأدب بمفهومه العام، وهو المختص بالجانب الخُلُقي والسلوكي لا بدلالات اللسان ودلالات الألفاظ في حالاتها الإفرادية والتركيبية.

وبالنظر إلى أهمية الأدب وفضله في الإسلام، فإننا نجد أنّ الإسلام قد وضع قواعدَ في التربية والتهذيب، ومبادئَ للقيم والسلوك والأخلاق، ليقيم عليها مجتمعاً نقيَّ السريرة، عفّ اللسان، ذا أدبٍ وذوقٍ رفيع، فقد عُنيَ الإسلام بموضوع الأدب بشكل عام، رُوي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (ما نَحَلَ والدٌ ولدَه أفضل من أدبٍ حَسَن)[2]، وأنه قال (صلى الله عليه وآله): (أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم يغفر لكم)[3].

 فنحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم، وأنّ قليلَ الأدب خيرٌ من كثير من العمل، ولذلك هلك إبليس وضاع أكثر عمله بقلَّة أدبه، لذا قيل: اجعل عملك مِلحاً وأَدَبَك دقيقاً؛ أي ليكنْ استكثارُك من الأدب أكثر من استكثارك من العمل؛ لكثرة جدواه ونفاسة معناه.

وقيل في بيان فضل الأدب: أربعةٌ يسود بها العبد: العلم، والأدب، والفقه، والأمانة، وقيل: مَن كَثُرَ أدبُه شرُفَ وإنْ كان وضيعاً، وسادَ وإنْ كان غريباً، وكثُرت الحاجة إليه وإنْ كان فقيراً.

وإنْ كان الأدب خُلُقاً عاماً يتناول كثيراً من التصرفات والسلوكيات، إلا أنه أفضل ما يكون في الكلام، وما الناسُ إلى شيءٍ مِنَ الأدب أحوجُ منهم إلى إقامة ألسنتهم التي بها يتعاودون الكلام، ويتعاطَوْن البيان، ويتهادَوْن الحكمة، ويستخرجون غوامض العلم من مخابئها، ويجمعون ما تفرّق منها، فإنّ الكلام قاضٍ يحكم بين الخصوم، وضياءٌ يجلو الظُلَم، حاجةُ الناسِ إلى موادّه حاجُتُهم إلى موادّ الأغذية.

ومن استقرأ أحداث المشاكل الاجتماعية، والأزمـات المعكِّرة لصفو المجتمع، علم أن منشأها في الأغلب بوادر اللـسان، وتبادل المهاترات الباعثة على توتر العلائق الاجتماعية، وإثارة الضغائن والأحقاد بين أفراد المجتمع.

من أجل ذلك كان صون اللسان عن تلك القوارص والمباذل، وتعويده على الكلم الطيب والحديث المهذّب النبيل، ضرورة حازمة يفرضها أدب الكلام وتقتضيها مصلحة الفرد والمجتمع، فطيب الحديث، وحسن المقال، من سمات النبل والكمال، ودواعي التقدير والاعزاز، وعوامل الظفر والنجاح، وقد دعت الشريعة الاسلامية إلى التحلي بأدب الحديث، وطيب القول، بصنوف الآيات والأخبار، وركّزت على ذلك تركيزاً متواصلاً إشاعة للسلام الاجتماعي، وتعزيزاً لأواصر المجتمع، قال الله تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً)[4]، وقال سبحانه: (... وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)[5].

وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَوْصِنِي، فَقَالَ (صلى الله عليه وآله): (احْفَظْ لِسَانَكَ)، قَالَ: يَا رَسُولَ الله أَوْصِنِي، قَالَ (صلى الله عليه وآله): (احْفَظْ لِسَانَكَ)، قَالَ: يَا رَسُولَ الله أَوْصِنِي، قَالَ (صلى الله عليه وآله): (احْفَظْ لِسَانَكَ وَيْحَكَ وهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)[6].

وعن جابر قال: سمع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) رجلا يشتم قنبرا وقد رام قنبر أن يرد عليه، فناداه أمير المؤمنين علي (عليه السلام): (مهلا يا قنبر، دع شاتمك مهانا تُرضِ الرحمن، وتُسخط الشـيطان، وتعاقب عدوك، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت، ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه)[7].

 وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى قَالَ: حَضَرْتُ أَبَا الْحَسَنِ صَلَوَاتُ الله عَلَيْه وقَالَ لَه رَجُلٌ أَوْصِنِي، فَقَالَ لَه: (احْفَظْ لِسَانَكَ تُعَزَّ ولَا تُمَكِّنِ النَّاسَ مِنْ قِيَادِكَ فَتُذِلَّ رَقَبَتَكَ)[8].

وقال علي بن الحسين (عليهما السلام): (القول الحسن يُثري المال، ويُنمّي الرزق، ويُنسئ في الأجل، ويحبب إلى الأهل، ويدخل الجنة)[9]، قال الشاعر:

عوّد لسانك قول الخير تحظ به * إن اللسان لما عوّدت معتاد

موكل بتقاضي ما سننت له * في الخير والشر فانظر كيف تعتاد.

الإسلام دين تجمّع وألفة:

الأصل في دين الإسلام أنه دينُ تجمّع وألفة، لا دين عزلةٍ وفرارٍ من تكاليف الحياة، ولم يأت القرآن ليدعو المسلمين إلى الانقطاع في دير، أو العبادة في صومعة، بعيداً عن مشاكل الحياة ومتطلباتها، بل إنّ نزعة التعرّف إلى الناس والاختلاط بهم أصيلة في تعاليم هذا الدين، فقد بين الرسول (صلى الله عليه وآله) أنّ الفضل لمن خالط الآخرين وتعرَّف عليهم ولم يتقوقع على نفسه، وذلك في قوله (صلى الله عليه وآله): (المؤمن الذي يُخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظمُ أجراً من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم)[10].

والإسلام يبغض العزلة التامة عن الناس مهما كانت مبرراتها، عبادية أو غيرها، فلا رهبانية في الإسلام كما هو معروف، ومن الشواهد النقلية على ذلك أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقد رجلا، فسأل عنه فجاء، فقال: يا رسول الله إني أردت أن آتي هذا الجبل فأخلو فيه فأتعبد، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لصبر أحدكم ساعة على ما يكره في بعض مواطن الإسلام خير من عبادته خاليا أربعين سنة)[11]، وعلى ضوء ذلك فهناك مواطن تتطلب من الفرد أن ينظم إلى الجماعة وأن ينصهر بها، كمواطن الجهاد، وحضور الجماعة في المساجد، والدراسة في مراكز التعليم المختلفة وغيرها.

والحقيقة أنَّ أدب التعامل مع الآخرين له مفهوم شامل، يتسع اتساع العلاقات الإنسانية بين بني البشر، والروابط التي تجمع بين الناس كثيرة، فمن رابطة الدم، إلى رابطة الفكرة والمبدأ، ورابطة العمل والوظيفة، ورابطة الصداقة والصحبة، ورابطة الجنس والعرق، والرابطة التجارية والاقتصادية، ورابطة العقيدة التي تُعدّ من أقوى الروابط وأمتنها. ولكن قوّة رابطة العقيدة، لا تعني أنَّ أدب التعامل مع الآخرين لا يدور إلا في نطاقها، ولا يشمل التعامل مع أصحاب العقائد الأخرى من غير المسلمين، بل إنَّ أدب التعامل يتسع ليشمل الإنسانية كلَّها.

ولابدّ لنا في هذا السياق من التفريق بين أدب التعامل مع الآخرين وبين الولاء لهم، فإنّ الولاء هو المحبة والنصرة وهذه لا تكون إلا بين المسلمين، ولكن التبرؤ من أعداء الله لا يعني الإساءة في معاملتهم، أو أكل حقوقهم، أو سبّهم والفحش معهم في القول، أو عدم ملاطفتهم، فالولاء هو سلوك الباطن، والمحبة القلبية، وما يترتب على ذلك من نصرة وإعانة، أما التعامل الحسن؛ فهو سلوك الجوارح والعلاقة الظاهرية، والأول: (المحبة القلبية) قد حُصر على المسلمين، أما الثاني: (العلاقة الظاهرية) فهو مع المسلمين ومع غيرهم، ولعلّ ما ورد في سورة الممتحنة، هو من أوضح الآيات التي تميز بين الولاء وبين البرّ وحُسن التعامل، يقول الله تعالى: (لا يَنْهَاكُمْ الله عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ الله عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ)[12]، فقضية التعامل مع الآخرين هي قضية بالغة الأهمية والخطورة، وقد جعل الإسلام الالتزام بالدين في قسمٍ كبيرٍ منه، متوقفٌ على الأدب وحسن المعاملة. ومن منطلق هذه الأهمية، جاء القرآن الكريم ليضع لنا المناهج القويمة والأسس السليمة للتعامل مع الآخرين باعتباره موضوعاً أساسياً من موضوعات هذا الدين، فقد أصّل القرآن الكريم لأدب التعامل مع الآخرين وأقامه على مجموعة من القواعد والفنون، التي نضمن من خلالها نتائج إيجابية وحسنة في العلاقات الإنسانية، وهذه القواعد والفنون كثيرة ومتنوعة، وليس من موضوعنا الحديث فيها، غير أنّ هناك قاعدة قرآنية تُعدُّ أصلاً تتفرع عنه كل قواعد التعامل مع الآخرين، هذه القاعدة هي «حُسْنُ الخُلُق»، إذْ لا نجاح ولا توفيق في التعامل مع الآخرين دون هذا الأصل المتين، ومن هنا فقد مدح الله تعالى نبيه بهذه الصفة، فقال عنه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[13]، فحُسْنُ الخُلُق أصْلٌ في أدب التعامل، وتتفرع عنه سلوكيات كثيرة، ومن أهم السلوكيات المترتبة على حُسن الخُلُق، أن صفات الشخص الذي يوصف بحسن الخُلُق أنه يكون كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الإصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، قليل الفضول، بَرّاً وصولاً، وقوراً صبوراً، شكوراً رضيّاً، حليماً رفيقاً، عفيفاً شفيقاً، لا لعَّاناً ولا سبّاباً، ولا نمّاماً ولا مغتاباً، ولا عجولاً، ولا حقوداً، ولا بخيلاً ولا حسوداً، بشّاشاً هشّاشاً، يحب في الله، ويبغض في الله، ويرضى في الله، ويغضب في الله، فهذا هو حُسن الخلق.

وبصورة عامة، فإنّ الأسلوب الإسلامي في التعامل مع الناس هو الأسلوب الأمثل والأحسن، وهو الأسلوب الذي يعود بانعكاسات إيجابية على العلاقات الإنسانية. ولا يزال المسلم الحق الملتزم بدينه، المحافظ على أخلاقه الإسلامية، قدوة حسنة بين الناس، يحبه كلُّ من يخالطه، ويُسَرُّ لـه كل من يجالسه. تخلُّقه بآداب الإسلام ومكارم الأخلاق جعل منه نموذجاً حياً للشخصية الاجتماعية الرّاقية المهذبة النقية.

توجيهات في الحث على أدب المعاملة:

إن حب الناس الحقيقي لشخص ما لا يتوقف على مال ولا جاه ولا منصب، وإنما هي الأخلاق وحسن التعامل، وتحديداً ما يسمى "باللباقة وذوق المعاملة".. الأمر الذي يؤكد أن "الدين المعاملة".. تلك المرآة الصادقة لما يخفيه الإنسان داخله من نقاء ورقي.

ولا شك أن أسعد الناس من يجيد فن التعامل مع الآخرين، والحياة، ويجد المفتاح السحري لغزو قلوب البشر، والأمر في كل ذلك لا يتطلب أكثر من معرفة بعض أسرار الأدب في التواصل.

ثم إن التوجيهات التي تحث على الالتزام بالأدب في التعامل مع الآخرين كثيرة، وسنحاول فيما يلي أن نذكر بعضاً منها.

1. النهي عن فضول الكلام والخوض في الباطل:

لقد حثَّ القرآن الكريم على الابتعاد عن فضول الكلام وعدم الخوض في الباطل، والالتزام بهذا التوجيه القرآني مِنْ شأنه أنْ يَصُبَّ في بناء مجتمعٍ متماسكٍ يبتعد فيه الناس عن الثرثرة والإكثار من الكلام الذي لا حاجة إليه. قال الله تعالى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)[14]، فهذه الآية القرآنية تُوجِّه المؤمنين إلى أنْ يكون كلامُهم هادفاً، فإنَّ من شأن المسلم الواعي ألا يخوض فيما لا يعنيه، وألا يُكثر من الكلام غير الهادف وإن كان مباحا لأنه لا خير فيه، فإنَّ الوقت أثمن من إضاعته في فضول الكلام وهَذَرِه.

وكثرة الكلام تؤدي إلى قسوة القلب، فقد وَرَدَ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (لا ُتكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإنَّ كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوةٌ للقلب، إنَّ أبعد الناس من الله القلب القاسي)[15].

ولا شكَّ أنَّ قسوة القلب مع الله تؤدي إلى قسوته مع الناس، مما يُلقي بظلاله السيئة على الاتصال بالآخرين، وعلى العلاقات الإنسانية بشكل عام.

2. النهي عن السب والفحش في القول: للسب والفحش في القول أضرار كثيرة، ففيها إيذاءٌ للمسبوب، وإيغارٌ للصدور، وقَطْعٌ للعلاقات والمودَّات، وزرعٌ لبذور الفتنة والشقاق، وذلك لما تجلبه من العداوة والبغــــضاء، وتجرُّه إلى المنازعات والمشاحنات التي قد تنتهي بأوخم العواقب وأسوأ النتائج، فتتفكك عُرى المحبة، وتنقطع روابط الأُلْفة، ويحل الفساد محل الصلاح، والخصام محل الوئام، فتسوء الأحوال وتضطرب الأعمال.

ونتيجة لهذه الآثار السيئة التي يتركها السباب وفحش القول على العلاقات الإنسانية، جاء التوجيه القرآني ليحث على تجنب النطق بالألفاظ البذيئة، والكلمات المبتذلة، قال تعالى: (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً)[16]، وفي آية أخرى نصَّ القرآن الكريم على أن إيذاء المؤمنين بالقول السيئ دون وجه حق، يترتب عليه إثم عظيم، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً)[17].

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)[18].

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (المرء مخبوء تحت لسانه، فَزِن كلامك، واعرضه على العقل والمعرفة، فإنْ كان لله وفي الله فتكلم، وإن كان غير ذلك فالسكوت خير منه، وليس على الجوارح عبادة أخف مؤنة وأفضل منزلة وأعظم قدرا عند الله من كلام فيه رضى الله عز وجل ولوجهه ونشر آلائه ونعمائه في عباده، ألا إن الله لم يجعل فيما بينه وبين رسله معنى يكشف ما أسر إليهم من مكنونات علمه ومخزونات وحيه غير الكلام...)[19].

 وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قال: (حق اللسان إكرامه عن الخنا ـ الفحش في القول -، وتعويده الخير، وترك الفضول التي لافائدة لها، والبر بالناس، وحسن القول فيهم)[20].

الحث على الصَّمت وحُسْنِ الاستماع:

الصمت وحُسن الاستماع مهارة لابدّ من إتقانها لما لذلك من أهمية كبرى في بناء العلاقات الإنسانية بين الأفراد والجماعة، وهي وسيلة مُجدية في إيجاد الفهم المتبادل بين الناس ومساعدتهم في حلِّ مشاكلهم، والتخفيف من آلامهم، وما يحسون به من ضيقٍ وحزن.

وقد نبَّه القرآن الكريم إلى ضرورة حُسن الاستماع، قال تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ الله وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)[21]، وعن الإمام علي (عليه السلام): (عود أذنك حسن الاستماع، ولا تصغ إلى ما لا يزيد في صلاحك..)[22].

ومما ذكر في علم النفس في العصر الحديث في هذا الشأن ما نَصُّهُ: «إنَّ الإنصات عظيم الفائدة، فهو يفتح لك نافذة لترى ما يدور في عقل الطرف الآخر، كما يجعل الطرف الآخر على استعداد للإنصات إليك. فلو أنَّ الطرف الآخر كان غاضباً أو قلقاً، فلماذا لا تحاول أنْ تستمع إلى شكواه، لا تقاطعه حتى لو شعرتَ أنه مخطئ، أو أنه يهينك، ويمكنك أنْ تُشْعره بإصغائك إليه عن طريق تركيز نظرك عليه، أو هزّ رأسك من آنٍ لآخر، أو ترديد عبارات مثل: «نعم، نعم» أو «أنا أفهم ما تقصده» وعندما ينتهي من حديثه، اسْأَلْه بهدوء إن كان لديه شيء آخر يريد أن يضيفه، وشجعه على أنْ يُفضي إليك بكل ما يضايقه، بأن تقول له مثلاً: «من فضلك استمر في حديثك» أو «ماذا حدث بعد ذلك؟». وبمجرد أنْ تُنصت لما يريد الطرف الآخر أنْ يقوله، فغالباً ما سيؤدي ذلك إلى تهدئته، ليصبح أكثر تعقَّلاً وأكثر استجابة بشأن حل المشكلة، واستصدار القرار المطلوب، فليس من قبيل الصدفة أنَّ أفضل المحاورين غالباً ما يستمعون أكثر مما يتكلمون[23].

ولابدّ من الإشارة هنا إلى أنَّ براعة الإنصات تكون بالأذُن، وطرف العين، وحضور القلب، وإشراقة الوجه، وعدم الانشغال بتحضير الردّ، وعدم الاستعجال بالردّ قبل إتمام الفهم، فإنَّ كثيراً من الناس يخفقون في ترك أثرٍ طيِّب في نفوس من يقابلونهم لأول مرة، لأنهم لا يُصغون إليهم باهتمام، إنهم يستمعون بنصف أُذُن، ويحصرون همهم فيما سيقولونه لمستمعهم، فإذا تكلَّم المستمع لم يُلقوا لـه بالاً، عِلْماً بأنَّ أكثر الناس يُفضِّلون المنصت الجيد على المتكلم الجيد، ومن حُسن الاستماع أنه إذا كان السامع عالماً بكلام المتحدث، فإنه ليس من الأدب مقاطعته ومداخلته فيه، بغرض الإظهار للآخرين معرفة هذا الحديث والعلم به.

ومن حُسن الأدب أيضاً، أنه إذا أشكل على المستمع شيء من كلام محدِّثه، فإن عليه أنْ يصبر حتى الانتهاء من الحديث، ثم يستفهم منه بأدب ولطف وتمهيدٍ حَسَنٍ للاستفهام، ولا يقطع عليه كلامه، فإنَّ ذلك مخلٌّ بأدب الاستماع، إلا إذا كان المجلس مجلس دراسة وتعلُّم، فإن له حينئذٍ شأناً آخر، ويحسن فيه السؤال والمناقشة عند تمام الجملة أو المعنى الذي يشرحه المعلِّم، وينبغي أنْ تكون المناقشة فيه بأدب وكياسة، فمن الأخلاق السيئة مغالبة الرجل على كلامه، والاعتراض فيه لقطع حديثه.

 الحث على خفض الصوت وعدم رفعه:

من توجيهات القرآن الكريم في الحث على الأدب مع الآخرين، الدعوة إلى خفض الصوت وعدم رفعه، ويظهر هذا التوجيه جَليِّاً فيما جاء على لسان لقمان الحكيم في وصاياه لابنه، قال الله تعالى: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)[24]، والحكمة في غض الصوت المأمور به، أنه أوفر للمتكلم، وأبسط لنفس السامع، وفَهْمِه.

وأدب خفض الصوت ينبغي مراعاته مع جميع المخاطبين، بغضِّ النظر عن سِنِّهم ومكانتهم، غير أنه يزداد تأكيداً مع ذوي المكانة والشأن، وعلى هذا جاء التوجيه القرآني بخفض الصوت في حضرة النبي (صلى الله عليه وآله)، الوارد في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)[25]، وكذلك في حضرة الوالدين، كما يُفهم من قوله تعالى: (... فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً)[26].

ولعلنا أحوج ما نكون إلى الهدوء وعدم رفع الصوت في الحوار الذي يجري مع المعارضين والمخالفين، فإنه يحسن بالمحاور ألا يرفع الصوت أكثر مما يحتاج إليه السامع، فإنَّ رفع الصوت لا يُقوِّي حجة صاحبه قط، وفي أكثر الحالات يكون صاحب الصوت الأعلى قليل المضمون، ضعيف الحجة، يستر عجزه بالصراخ، على عكس صاحب الصوت الهادئ الذي يعكس عقلاً متزناً وفكراً منظماً وحجة وموضوعية. وقد وُجد بالخبرة والتجربة، أنَّ الصوت المعتدل الهادئ المتأني من غير صراخ أو صياح، ومن غير إسرارٍ وإخفات، هو الأدخل إلى النفوس، والأنفذ إلى الأعماق، والأحفظ لجلال الكلمة ووقار المتكلم.

الحثّ على طلاقة الوجه وعدم العبوس:

تُعدُّ طلاقة الوجه لوناً من ألوان التحبّب إلى الناس، ووسيلةً مؤثّرةً من وسائل التقرِّب إلى الآخرين ومداراتهم،

قال الله تعالى موجّهاً رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله) إلى هذا السلوك: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)[27]، أي تواضع لهم وأَلِنْ جانبك، وعامل أهل الإيمان بالإحسان والرفق والحنان. كما لم يرد الله تعالى لنبيه(صلى الله عليه وآله) أن يتصف بالفظاظة والغلظة والقسوة والشدة باعتبارها من المنفِّرات والمفرِّقات والمذهبات لأخوَّة الإيمان، فقال سبحانه: (...وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ..)[28]. والمطَّلع على سيرة النبي المصطفى(صلى الله عليه وآله) وسنّته الشريفة، يجد بما لا يدع مجالاً للشك، أنه كان القدوة في حُسن الإخاء وجميل المعاشرة وطلاقة الوجه. فنظراً لأهمية هذا الخُلُق الرفيع، وما انطوى عليه من الآثار الجليلة في نفوس الناس، وكونه من أبرز أسباب تجمع القلوب، وإشاعة الألفة والمحبة والوداد بين الإخوان، وجدنا النبي (صلى الله عليه وآله) يحث على طلاقة الوجه في لُقيا المؤمنين بعضهم بعضاً. فقد قال (صلى الله عليه وآله): (لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المعروف شيئاً ولو أنْ تَلْقَى أخاك بوجْهٍ طَلِق)[29].

وقال (صلى الله عليه وآله): (تبسُّمك في وجه أخيك صدقة)[30].

وقال أبو جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام): (صنيع المعروف وحسن البشر، يكسبان المحبة، ويقربان من الله، ويدخلان الجنة)[31].

ومن أدب المعاملة النهي عن النجوى:

النجوى: هي كلام السرِّ الذي يكون بين اثنين أو أكثر، في تخافت وتهامس، بعيداً عن أسماع الناس. ويبين القرآن الكريم أنَّ النجوى من صفات المنافقين الذين يَجبنون دائماً عن التصريح بآرائهم ومعتقداتهم، ويعتادون على التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول محمد (صلى الله عليه وآله).

قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنْ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا الله الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ)[32].

وفي النهي عن النجوى دليلٌ على حرص الإسلام على مراعاة شعور الآخرين، إذ إنَّ النجوى على هذه الصورة تؤدِّي إلى سوء الظن بالآخرين وجرح مشاعرهم، لما قد يوحيه هذا التصرف لهم بأنهم ليسوا أهلاً للمشورة أو الصحبة، وهذا ينعكس سلبا على المجتمع.

فالقرآن الكريم يؤسّس لقواعد اللياقة الاجتماعية، والأدب النفسي للتعامل في المجتمع الإنساني، فالمجتمع الفاضل من وجهة النظر القرآنية، لا بدّ وأن يقوم على أسسٍ من الأدبيات الذوقية، التي ينبغي أنْ تَحكم العلاقات السائدة بين أبنائه. إنه المجتمع الذي يترفَّع أبناؤه عن الهمز واللمز والسخرية، ويكون الأدب هو الخُلق الذي يحكم تعاملهم فيما بينهم. عن الإمام الصادق (عليه السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (أذل الناس من أهان الناس)[33].

وعن يحيى الحلبي، عن أبي عبـد الله (عليه السلام) قال: (لا يطمعن المستهزئ بالناس في صدق المودة)[34].

 خاتمة القول:

كان الهدف من هذه التوجيهات (أدب المعاملة)، هو تنقية المجتمع الإسلامي من شوائب الخسَّة والضِّعة، وبناء العلاقات الاجتماعية على أسس المودَّة والإخاء والنصيحة، وشغل الوقت بالإيجابيات النافعة، فالمؤمن طاهر القلب أبداً عفيف اللسان، إذا رأى عورة لأخيه سترها، وإذا شاهد نقيصة أعرض عن نشرها، ونبّهه سراً للإقلاع عنها...وذِكرُ هذه الأشياء التي يُعاب بها الإنسان يُساعد على شيوعها، والله سبحانه لا يحبّ أن تشيع هذه السلبيَّات في حياة الناس، ولا يخفى ما ينشأ من آثارٍ سيئة في العلاقات بين الناس نتيجة سماع هذه المعايب، وما يُثار من ضغائن وأحقاد عندما يُنقل هذا الكلام إلى الطرف الآخر، وقد سعى الإسلام إلى إقامة سياجٍ حول حُرمات الأشخاص وكراماتهم وحُرّياتهم، وتعليم الناس كيف يطهِّرون مشاعرهم وضمائرهم في أسلوب متفرِّدٍ عجيب.

والحمد لله رب العالمين.

 


[1] لسان العرب لابن منظور: ج1، ص206.

[2] كنز العمال للمتقي الهندي: ج16، ص456.

[3] مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي: ص222.

[4] سورة الإسراء: آية 53.

[5] سورة البقرة: آية 83.

[6] الكافي للشيخ الكليني: ج2، ص115.

[7] الأمالي للشيخ المفيد: ص118.

[8] الكافي للشيخ الكليني: ج2، ص113.

[9] الخصال للشيخ الصدوق: ص317.

[10] كنز العمال للمتقي الهندي: ج1، ص142.

[11] ميزان الحكمة محمد الريشهري: ج3، ص1966.

[12] سورة الممتحنة: آية 8 -9.

[13] سورة القلم: آية 4.

[14] سورة النساء: آية 114.

[15] الأمالي للشيخ الطوسي: ص3.

[16] سورة النساء: آية 148.

[17] سورة الأحزاب: آية 58.

[18] جامع السعادات للنراقي: ج2، ص263.

[19] جامع السعادات: ج2، ص264.

[20] بحار الأنوار للمجلسي: ج68، ص268.

[21] سورة الزمر: آية 18.

[22] ميزان الحكمة محمد الريشهري: ج2، ص1362.

[23] فن التفاوض لوليام أوري: ص67- 68.

[24] سورة لقمان: آية 19.

[25] سورة الحجرات: آية 2.

[26] سورة الإسراء: آية 23- 24.

[27] سـورة الحـجر: آية 88.

[28] سورة آل عمران: آية 159.

[29] مستدرك الوسائل للطبرسي: ج12، ص344.

[30] ميزان الحكمة محمد الريشهري: ج2، ص1597.

[31] مستدرك الوسائل للطبرسي: ج12، ص344.

[32] سورة المجادلة: آية 8-10.

[33] الأمالي للشيخ الصدوق: ص14.

[34] بحار الأنوار للمجلسي: ج72، ص144.