(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)[1].
الرحمة بين العباد:
لقد أثنى الله تعالى على رسوله الكريم ومن سار على نهجه ممتدحا فيهم صفة التراحم فيما بينهم، بقوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)[2].
إنّ اللهُ سُبحانَهُ يُقَدِّمُ الوصف بِالتَّراحُمِ عَلَى الوصفِ بِالرُّكوعِ والسُّجودِ، ليبَيِّنَ لِلأُمّة أن لا خَيرَ في أُناسٍ يَركَعونَ ويَسجُدونَ، فإذا خَرَجوا مِن مَساجِدِهم تَشاحّوا وتَظالَموا، ولم يَتَسامَحوا بَينَهُم ولم يَتَراحَموا، إنَّ مَن يَفعَلُ هَذا فلَيسَ عَلَى طَريقة محمدٍ ومن وآلاه، ولَيسَ عَلَى هَديِهم ولا سَبيلِهم، يُؤَكِّدُ هَذا الأمرَ النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) ويُصَرِّحُ بِه حَيثُ يَقولُ: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا ويعرف حقنا)[3].
التعريف بالرحمة والتراحم:
الرحمة: إرادة إيصال الخير للغير. والرَّحْمَةُ رقّة تقتضي الإحسان إلى الْمَرْحُومِ. والرحمة إنعام وإفضال وإحسان.
والتراحم بين الخلق يعني نشر الرحمة بينهم والتآزر والتعاطف والتعاون، بذل الخير والمعروف والإحسان لمن هو في حاجة إليه.
قال ابن الأثير: في أسماء الله تعالى (الرّحمن الرّحيم) وهما اسمان مشتقّان من الرّحمة، مثل ندمان ونديم. وهما من أبنية المبالغة ورحمن أبلغ من رحيم. والرّحمن خاصّ بالله لا يسمّى به غيره، ولا يوصف. والرّحيم يوصف به غير الله تعالى، فيقال: رجل رحيم، ولا يقال رحمن. والرّحمة من صفات الذّات لله تعالى والرّحمن وصف، وصف الله تعالى به نفسه وهو متضمّن لمعنى الرّحمة.
وكل هذه المعاني (للرحمة والتراحم) لا نجدها ومع الأسف الشديد في مُجتَمَعاتِنا اليَومَ بل نرى مِنهم العجب العجاب، وتَتَمَلَّكُكَ الدَّهشة وأنتَ تَرَى أُناساً يُصَلّونَ ويَركَعونَ ويَسجُدونَ، ويُحافِظونَ عَلَى الصَّلَواتِ والجُمَعِ والجَماعاتِ، ثم تَرَى مِنهُم بَعدَ ذَلِكَ مَن يَظلِمُ ويعتَدي، تَرَى مِنهُم مَن يَأكُلُ حَقَّ غَيرِه ولا يَنتَهي، تَرَى مَن يَشهَدُ بِالزّورِ ويَرتَشي، تَرَى القاطِعَ لِرَحِمِه الهاجِرَ لِقَراباتِه، تَرَى العاقَّ لِوالِدَيهِ المُسيءَ إلى مَن لَهُ حَقٌّ عليهِ! أينَ التَّراحُمُ الَّذي هو أثَرٌ مِن آثارِ الصَّلاةِ؟! أينَ أثَرُ الرُّكوعِ والسُّجودِ؟! إنَّ مَن يَحني ظَهرَهُ للهِ راكِعاً، ويُعَفِّرُ جَبهَتَهُ لِمَولاهُ ساجِداً، وهو مُخلِصٌ صادِقٌ، فقَد سَلَكَ سَبيلَ الخُشوعِ والخُضوعِ للهِ، وحَقَّقَ العُبودية في أكمَلِ صورِها وأبهاها، وسَيَظهَرُ أثَرُ ذَلِكَ في مَلامِحِ وجهِه وفي سُلوكِه، حَيثُ تَتَوارَى الخُيَلاءُ والكِبرياءُ والاستِعلاءُ، ويَحِلُّ مَحَلَّها التَّواضُعُ والشَّفقة، ومَحَبّة الخَلقِ والإحسانُ إلَيهِم والرَّحمة بهم، وإذا هو فعَلَ ذَلِكَ فلَن يُخزيهُ اللهُ أبَداً.
ولْنَقتَدِ بِخَيرِ الأُمّة وأعلَمِها بِاللهِ، ولْنَتَراحَمْ ولَيُحسِنْ غَنيُّنا لِفقيرِنا، ولْيَرحَمْ قَوينا ضَعيفنا، فإنَّ الإحسانَ فوزٌ ونَجاةٌ، وتَركَهُ خَسارة وهَلَكة؛ قالَ سُبحانَهُ: (وَأَنفِقُوا في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلقُوا بِأَيدِيكُم إِلى التَّهلُكَةِ وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحسِنِينَ)[4].
الرحمة صفة من صفات النبيين والصالحين:
قال سبحانه وتعالى واصفاً نبي الرحمة: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[5].
وقال عز وجل: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)[6].
ومن أسمائه (صلى الله عليه وآله): نبي الرحمة، قال الله عز وجل: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[7]، وقال (صلى الله عليه وآله): (إنما أنا رحمة مهداة)[8]، والرحمة في كلام العرب العطف والرأفة والإشفاق.
وقال (صلى الله عليه وآله): (إنما بعثت رحمة، رب أهد أمتي فإنهم لا يعلمون)[9].
التراحم صفة تزرع في المجتمع المسلم الوحدة والألفة والتماسك:
الرحمة هي من أهم الركائز التي يقوم عليها المجتمع المسلم بجميع أفراده، يستشعرون من خلالها معنى الوحدة والألفة، فيصبحون كالجسد الواحد، الذي يشتكي إذا اشتكى أحد أعضائه، ويتألم إذا تألم. فالمؤمن لا يكون إلا رحيماً بعباد الله، شفوقاً عليهم، محبّاً لهم، يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره.
قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)[10].
وروي عن أبي الربيع الشامي قال: كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) والبيت غاص بأهله فقال: (ليس منا من لم يحسن صحبة من صحبه، ومرافقة من رافقه وممالحة من مالحه، ومخالقة من خالقه)[11]، وفي رواية أنه (عليه السلام) قال: (اعلموا أنه ليس منا من لم يحسن مجاورة من جاوره)[12].
هكذا ينبغي أن يكون المجتمع المسلم، أن يتعامل أفراده بالرحمة فيما بينهم، وأن يتواصوا عليها. وأن يدعو بعضهم لبعض بالرحمة.
من صور الرحمة بين الخلق:
* الرحمة بالنفس:
أحوج شيء إلى رحمتك: نفسك التي بين جنبيك، ومن رحمة المرء لنفسه أن يمنعها من كل ما يؤذيها من الأمراض والمهالك، قال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)[13].
ومن رحمة المرء لنفسه أن يحميها من عذاب الله وسخطه وعقابه، قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[14].
* الرحمة بالأبناء:
أحوج الناس إلى رحمتك أولادك؛ أبناؤك وبناتك، ارحمهم بالرفق بهم، بالتودد إليهم، بحسن تربيتهم ورعايتهم.
فقد روي كان رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يقبل الحَسَنَ والحسين فقال الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ، فقال رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): (مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ)[15].
* الرحمة بالوالدين:
وكذلك أحوج الناس إلى رحمتك وشفقتك وإحسانك وبرّك: الوالدان: الأم والأب، فارحمهما ولا تعذبهما، وسامحهما ولا تؤاخذهما، وأكرمهما ولا تُهنهما، وتواضع لهما ولا تتكبر عليهما، فتلك وصية من الله إليك؛ قال سبحانه: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[16].
فهما بحاجة إلى رحمتك خاصة عند المشيب والكبر، إذا خارت قواهما وصار البياض في شعورهما، والتهبت بالأحاسيس مشاعرهما، فهما عند ذلك أحوج ما يكونان إلى عطفك ورحمتك وحلمك، قال سبحانه: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيماً)[17].
ويحتاج الوالدان أيضاً إلى رحمة الأولاد وهما بين القبور، ينتظران البعث بعد النشور، فما أحوجهما في ذلك اليوم إلى دعوة صالحة منك، ترفعها إلى الله جل جلاله أن يفسح لهما في قبريهما، فقد صارا غرباء سفر لا يُنتظرون، ورهناء ذنوب لا يُفكون ولا يطلقون، فارفع الأكف الصادقة إلى الله أن يرحمهما.
فعن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا عن ثلاث: ولد صالح يدعو له، وعلم ينتفع به، وصدقة جارية)[18].
مجلة بيوت المتقين العدد (32)
[1] سورة محمد: 29.
[2] سورة محمد: 29.
[3] أمالي المفيد: ص18.
[4] سورة البقرة: 195.
[5] سورة آل عمران: 159.
[6] التوبة: 128، 129.
[7] الأنبياء: 107.
[8] بحار الأنوار: ج16، ص115.
[9] الاحتجاج للطبرسي: ج1، ص315.
[10] كنز العمال: ج1، ص149.
[11] من لا يحضره الفقيه: ج2، ص274.
[12] وسائل الشيعة: ج12، ص129.
[13] النساء: 29.
[14] التحريم: 6.
[15] وسائل الشيعة: ج21، ص485.
[16] الاسراء: 24.
[17] الإسراء: 23.
[18] مستدرك الوسائل: ج12، ص230.