جامع الفقير

جامع الفقير

تُعدُّ المساجد من معالم الحضارة الإسلامية، والشاهد على عظمتها، إذ لم تكن المساجد يوماً مجرّدَ دورٍ للعبادة وحسب، بل كانت بمنزلة الجامعات العالمية في وقتنا الحاضر، وينظر اليها على أنها المنطلق الأول لنهضة الأمة، والمركز الرئيس لنشر الثقافة الإسلامية.

ومنذ مجيء الإسلام إلى يومنا هذا تُشيّد المساجد الجديدة وتُعمّر القديمة منها، فقد انتشرت المساجد في جميع أجزاء المعمورة، إذ لا تكاد تخلو منها مدينة، لكثرتها، خصوصاً في الدول الإسلامية، ففي العراق مثلاً، تمّ تأسيس أول مسجد فيه في مدينة البصرة، عام 14هـ، تلك المدينة العريقة بتراثها وحضارتها، التي كانت وما تزال ملتقى فكريًا ودينيًا مهمّاً على امتداد التاريخ الإسلامي، فقد شيّد سكّان هذه المدينة كثيراً من المساجد التي ما تزال حاضرة إلى زمننا هذا.

ومن بين تلك المساجد التي انتشرت في أرجاء البصرة «جامع الفقير»، الذي لا يزال يعلو منارته ذلك النداء الملكوتي الداعي إلى دين الحق.

يُعدُّ جامع الفقير من المساجد التاريخيّة المهمة في محافظة البصرة، والكائن في مركز المحافظة، منطقة البصرة القديمة، وهو بناءٌ قديمٌ يعودُ تأريخه إلى حدود المائة وعشرين سنة تقريباً، إذ توجد وثائقُ للمسجد يعودُ تأريخها إلى عام 1928م، علماً أنّه كان مُشيّداً قبل هذا التأريخ.

تحفةٌ معماريّة:

يُعدُّ هذا المسجد تُحفَة أثريّة بارزة في مدينة البصرة، كانت تعلوه منارةٌ متوسطة الارتفاع مبنيّة من الطابوق الأصفر، محاطة بحزام أخضر، وأربع سمّاعات متوجّهة إلى الجهات الأربع، يعلوها تشكيلٌ للفظ الجلالة صُنعَ بشكلٍ زُخرفيٍّ جميل، والداخل إليه يمرُّ من بابه الخشبي الكبير الذي زخرف بالنقوش الإسلاميّة، ويليه صحنُ المسجد وقد أُحيط بجدران مهدّمة في بعض الجوانب، وتتوسّط هذا الصّحن باحة المسجد، ويستقرُّ حرم المسجد على مساحةٍ كبيرةٍ.

بابه من الحديد، وعند الدخول إلى الحرم يستقبلُ الداخلُ محرابَ الصلاة، وقد صُمِّم بطرازٍ إسلاميٍّ رائع، واستقرَّ في أحد جوانبه منبرٌ خشبيٌّ نُقشت عليه بعضُ النقوش، وممّا يُلفت النظر فيه ساعةٌ جداريةٌ قديمة استقرّت فوق محرابِ المسجد جُعلت وقفاً عام 1962م.

زمن التأسيس والمراحل العمرانية للمسجد:

أُسّس المسجد على يدِ الحاج محمد علي فقير ـ أحد تجّار الهِند الذين قدِموا البصرة ـ بسبب نذر وفى به بعد أن شفاه الله من مرضٍ أصابه، فبنى هذا المسجد، ونسبت تسمية المسجد إليه، فكان المسجد بعد ذلك مهوى القلوب، ومكانَ العبادة والصَّلاة، ومركزَ الإشعاع الفكري، يرتادُه الناس على اختلاف طبقاتِهم وأعمارهم، وكان له الدورُ الكبير في نشر العلوم الثقافية والدينيّة والفقهيّة في المنطقة، كما تخرّج من أحضانه كثيراً من قرّاء القرآن الكريم وحفّاظه، حتى أنَّ البعض كان يروق له أن يسمِّيَه «جامع الفقيه»؛ لكثرةِ ما احتضَنَ مِن حلقاتٍ للذكر والعلم والمعرفة، ولكثير مَن صلّى فيه من الفقهاء والأعلام.

كان المسجد بمنزلة محطّةٍ لاستراحة بعض التجّار والوافدين من بلاد الهند لزيارة العتبات المقدّسة، إذ كان عددٌ من الهنود القادمين إلى البصرة عن طريق البحر ينزلون الجامع للراحة فيه عدّة أيّامٍ، ثمَّ ينطلقون لأداء مراسيم الزيارة، وينزلون به مرّة أُخرى عند عودتهم.

مرّ المسجد بمراحل عمرانيّة متعدّدة، إذ كان بناؤه من الطّين والخشب وأعمدة الصّندل.

 عُمِّر عدّة مرّات منها في عام1995م على نفقة أحد المؤمنين، ثمّ ألحق به بناءٌ جديدٌ جُعل داراً للضِّيافة، تقام به بعض المناسبات الاجتماعيّة، وأُعيد بناؤه عام 2014م بطرازٍ حديث ومن طابقين، وأُضيفت له عدّة قاعات واسعة، وكل ذلك من تبرعات الإخوة المؤمنين، وخصوصاً من آل المازنيّ، وبإشراف من السيد ثامر الموسوي إمام الجامع ومتوليه، وبنيت له منارة بارتفاع 27م على يد البنّاء السيّد عليّ الحليّ.

الأنشطة الدينيّة والثقافيّة:

أُقيمت في المسجد الكثير من الأنشطة الدينيّة والثقافيّة والندوات الفكرية، كصلاة الجماعة، وذكر مصائب أهل البيت وولاداتهم المباركة، والمحاضرات الثقافيّة، وبعض الدروس الحوزويّة في الفقه والعقائد والقرآن، و تستمرُّ طيلة أيّام العام، فقد ارتاده الكثير من الشخصيات العُلمائيّة أمثال الفقيه الراحل السيّد أمير محمّد القزويني (طيّب الله ثراه)، والسيّد عبّاس شبّر القاضي ونجله الشهيد السيّد عصام شبّر، والسيّد عبدالله خليفة الموسوي المدفون في الروضة العلويّة المقدّسة، والشيخ عبد الرضا الجزائري، والسيِّد حسين الشامي الكربلائي، والرادود الشيخ محمّد باقر الأيرواني، والسيِّد شمس الدّين قدس سرهما، والشيخ يوسف الدكسن وآخرين.

أبرز الخطباء والوجهاء والمؤذنين والخدم:

ومن أبرز الخُطباء الذين خَدموا المِنبر الحسيني في هذا المسجد، السيّد جواد شبّر، والشهيد الشيخ عبد الأمير المنصوري، والسيِّد حسين الشامي الكربلائي، والرادود الحسيني عبد الرضا النجفي، والشيخ عبد الحافظ البغدادي، أما مَن ارتفع صوته بالأذان وصدحت حنجرته من منارته فهم كثر، أبرزهم الحاج كرم المتوفي عام 1965م وبعده جاء الحاج «خدا بخش» الإيراني، وكان لبعض الوجهاء والشخصيات حضور فاعل ومؤثر في المسجد أمثال السيّد مضر الحلو والأُستاذ الحاج محمّد ياسر، والأُستاذ الحاج عبد الأمير دهروب، والملّا مهدي، وأبو زينب المؤذِّن، والأخ حامد ذياب ساجت والملّا حسين البصير المتوفى عام 2003م، وآخرين

موكب المسجد:

وكان قد أُسِّس فيه موكبٌ للخدمة الحسينيّة قبل موكب الوحدة الذي أسَّسه السيِّد أمير محمّد القزويني في البصرة عام 1950م، وقد انضم موكب الخدمة إلى موكب الوحدة في هذا التاريخ، وفي عام 1963م افتُتحت فيه مكتبة عامّةٌ للسيِّد الحكيم.

وفي عام 1970م أُسِّس للمسجدِ موكبٌ خاصٌّ باسم موكب الشهداء، أسَّسه السيِّد حسن القزويني نجل العلامة الراحل السيد أمير محمّد القزويني، وقد قدّم هذا الموكب خيرة الشباب قرابين شهداء لإدامة الشعائر الحسينية واستمرارها في زمنٍ تكالبت فيه أجهزة السلطة على محو هذه الشعيرة وإخماد الصّوت الحسينيّ الثائر، حتى سُمّي بمسجدِ الشّهداء لكثرةِ ما قدَّم مِنَ الشّهداء.

أحداث جرت على المسجد:

مرّ المسجد بمراحل عصيبة في تأريخه، ففي عام 1979م أُغلِق نتيجة للظروف الأمنيّة التي مرّت بها البلاد آنذاك، وفي عام 1981م تم افتتاح المسجد بعد مجيء ملّا حسين البصير من الكويت، الذي أقام الصلاة فيه، وفي بداية التسعينيّات هُجر المسجد تماماً بسبب الظروف السياسيّة والأمنيّة بعد الانتفاضة الشعبانيّة، التي على أثرها ضيّق النظام على المصلِّين فيه، وفي عام 1999م أُغلِق تماماً حتّى عام 2003م، وخلال تلك الفترة التي أُغلق فيها المسجد تعرّض للسّرقة والعبث بأثاثِه، وعاش الآم البصريين، وشمله ما أصابهم.

خاتمة:

أما اليوم فإنَّ مسجدَ الفقيرِ عامرٌ بندائِهِ وصلاته ومحاضراته ويشكِّلُ ذاكرةً وتراثاً لمدينة البصرة، وإنَّ زائرهُ يستنشق عبقَ الماضي وذكرياتِه، وتنتابُه حالةٌ من الرُّوحانيّة، خصوصاً عندما يَعلم بعدد الأعلام والفقهاء الذين جاءوا ووَطِئت أقدامهم تراب هذا المسجد المبارك.

المصدر: بيوت المتقين (65) شهر شوال 1440هـ