المباهلة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ الله عَلَى الْكَاذِبِينَ)[1].

معنى المباهلة:

المباهلة لغة: من البهل، والبهل في اللغة بمعنى تخلية الشيء وتركه غير مراعى. الراغب في غريب القرآن: الاصفهاني: ص63 «بهل»

وأما المباهلة في الشرع فهي: الملاعنة، وباهَلَ بَعْضُهم بَعْضاً وتَبَهَّلُوا وتَباهَلُوا: أي تَلاعَنُوا وتَداعَوْا باللَّعْنِ على الظَّالِم. تاج العروس «بهل»

وقال ابن منظور: (ومعنى المباهلة أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا: لعنة الله على الظالم منّا)[2].

وأما صفة المباهلة فهي أن تشبك أصابعك في أصابع مَن تباهله وتقول: «اللّهمّ ربّ السماوات السبع، والأرضين السبع، وربّ العرش العظيم، إن كان فلان جحد الحقّ وكفر به فأنزل عليه حسباناً من السماء وعذاباً أليماً».[3]

وقت المباهلة:

أمّا وقتها، فيقول الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام) مبيّناً له: الساعة التي تُباهل فيها ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.[4]

دعوة النبيّ(صلى الله عليه وآله) لأساقفة نجران:

كتب رسول الله(صلى الله عليه وآله) كتاباً إلى أساقفة نجران يدعوهم إلى الإسلام، جاء فيه: «أمّا بعد، فإنّي أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، أدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتُم فقد أذنتم بحربٍ، والسلام».

فلمّا قرأ الأسقف الكتاب ذُعِر ذُعراً شديداً، فبعث إلى رجلٍ من أهل نجران يُقال له: شَرحبيل بن وداعة ـ كان ذا لب ورأي بنجران ـ فدفع إليه كتاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقرأه، فقال له الأسقف: ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرّية إسماعيل من النبوّة، فما يُؤمِنُك أن يكون هذا الرجل، وليس لي في النبوّة رأي، لو كان أمر من أُمور الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك.

فبعث الأسقف إلى واحدٍ بعد واحد من أهل نجران فكلّمهم، فأجابوا مثلما أجاب شرحبيل، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل وعبد الله ابنه وحبّار بن قنص، فيأتوهم بخبر رسول الله(صلى الله عليه وآله). فانطلق الوفد حتّى أتوا رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فسألهم وسألوه، فلم تزل به وبهم المسألة حتّى قالوا: ما تقول في عيسى بن مريم؟ فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «إنّهُ عَبدُ الله».

فنزلت آية المباهلة الكريمة حاملة إجابة وافية قاطعة لأعذار مُؤلّهي المسيح ومُتبنّيه، وهي بنفس الوقت دعوة صارخة لمباهلة الكاذبين المصرّين على كذبهم فيما يخصّ عيسى (عليه السلام).

فدعاهم (صلى الله عليه وآله) إلى اجتماعٍ حاشد، ليبتهل الجميع إلى الله تعالى في دعاء قاطعٍ أن ينزل لعنته على الكاذبين[5].

تفصيل المباهلة:

دعا النبي (صلى الله عليه وآله) نصارى نجران إلى الإسلام، فأقبلت شخصياتهم وأعلامهم وعلماؤهم، وكان عددهم يربو على السبعين، ولما وصلوا المدينة المنورة التقوا برسول الله (صلى الله عليه وآله) وجالسوه كرارا وتناظروا معه، فسمعوا حديثه ودلائله على ما يدعوا إليه من التوحيد والنبوة وسائر أحكام الإسلام، وما كان عندهم رد وجواب، ولكن حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها، وخافوا إن أسلموا يفقدوا مقامهم ورئاستهم على قومهم. فلما رأى النبي(صلى الله عليه وآله) لجاجهم وعنادهم، دعاهم إلى المباهلة حتى يحكم الله بينهم ويفضح المعاند الكاذب، فقبلوا... ولما جاءوا إلى الميعاد، وهو مكان في سفح جبل، وكان النصارى أكثر من سبعين، من علمائهم وساداتهم وكبرائهم، فنظروا وإذا رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد أقبل مع رجل وامرأة وطفلين، فسألوا عنهم بعض الحاضرين، فلما عرفوا أن الرجل الذي مع النبي(صلى الله عليه وآله) صهره وابن عمه علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وهو وزيره ، وأحب أهله إليه، والمرأة ابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام)، والطفلين هما سبطاه الحسن والحسين(عليهما السلام). قال لهم أكبر علمائهم: انظروا إلى محمد! لقد جاء بصفوة أهله وأعزهم عليه ليباهلنا بهم، وهذا إنما يدل على يقينه واطمئنانه بحقانيته ورسالته السماوية، فليس من صالحنا أن نباهله، بل نصالحه بما يريد من الأموال ولولا خوفنا من قومنا ومن قيصر الروم، لآمنا بمحمد وبدينه.

فوافقه قومه وقالوا: أنت سيدنا المطاع. فبعثوا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنهم لا يباهلونه، بل يريدون المصالحة معه، فرضي رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالمصالحة وأمر علياً(عليه السلام) فكتب كتاب الصلح بإملاء النبي(صلى الله عليه وآله)، فصالحهم(صلى الله عليه وآله) على ألفي حلة فاخرة، ثمن الواحدة أربعون درهما، وألف مثقال ذهب، وذكر بنودا أخرى، فوقع الطرفان على كتاب الصلح، ولما اعترض النصارى على الأسقف الأعظم ومصالحته مع نبي الإسلام ، أجابهم قائلاً: والله ما باهل نبي أهل ملة إلا نزل عليهم العذاب وماتوا عن آخرهم، وإني نظرت إلى وجوه أولئك الخمسة: محمد وأهل بيته، فوجدت وجوها لو دعوا الله عز وجل باقتلاع الجبال وزوالها لانقلعت وانزالت.

وقال النبي(صلى الله عليه وآله) : «والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلّى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولأضطرم عليهم الوادي ناراً، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا».[6]

قول الزمخشري في آية المباهلة:

بعد أن نقل قضية المباهلة في سبب تقديم الأبناء والنساء في آية المباهلة: (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ)[7]

قال: وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها.

وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي(صلى الله عليه وآله)[8]

كذلك قال البيضاوي: إن في الآية دليلين على نبوة النبي (صلى الله عليه وآله) وعلى فضيلة أهل الكساء (عليهم السلام) وكذلك الفخر الرازي نقل كلاماً قريب من هذا...[9]

 دلالة آية المباهلة على إمامة علي(عليه السلام): 

أما وجه الدلالة في هذه الآية المباركة، بعد بيان شأن نزولها وتعيين من كان مع النبي(صلى الله عليه وآله) في تلك الواقعة، فيستدل علماؤنا ـ تبعا لأئمتنا (عليهم السلام) ـ بكلمة: (وأنفسنا)، ولعل أول من استدل بهذه الآية المباركة هو أمير المؤمنين(عليه السلام) نفسه، عندما احتج في الشورى على الحاضرين بجملة من فضائله ومناقبه، فكان من ذلك احتجاجه بآية المباهلة: (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ).

ومن خصوصيات رسول الله(صلى الله عليه وآله) العصمة، فمن مفهوم آية المباهلة يُستدلّ على عصمة عليّ(عليه السلام) أيضاً.

ومن خصوصياته(صلى الله عليه وآله) أنّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فعليّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم أيضاً، وأنّه(صلى الله عليه وآله) أفضل جميع الخلائق وأشرفهم فكذلك عليّ(عليه السلام)، وإذا ثبت أنّه(عليه السلام) أفضل البشر، وجب أن يليه بالأمر من بعده.

شبٌة وردها:

كيف يكون الإمام علي(عليه السلام)  نفس رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟

وحاصل الشبهة من المخالف: أنكم تدعون بأن علياً(عليه السلام) كان في اتحاد نفسي مع رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ولهذا تعتقدون بأن الإمام علياً أفضل من جميع الأنبياء سوى النبي محمد(صلى الله عليه وآله) وكيف يمكن اتحاد شخصين حتى يصبحا نفسا واحدة؟!

وفي مقام الجواب نقول: اتحاد شخصين بالمعنى الحقيقي غير ممكن ومحال عقلا، ونحن إنما نقول باتحاد نفس النبي (صلى الله عليه وآله) ونفس الإمام علي (عليه السلام) مجازاً.

وبيان ذلك: أن رغبتهما كانت واحدة ونفسيتهما كانت متماثلة، وكانا متشابهين في الفضائل النفسية والكمالات الروحية، إلا ما خرج بالنص والدليل وهو مقام النبوة الخاصة وشرائطها، التي منها نزول الوحي عليه، فإن الوحي النبوي خاص بمحمد المصطفى (صلى الله عليه وآله) دون علي المرتضى (عليه السلام) وهذا حديث المنزلة شاهد صدق: «إنَّ عَلِيّاً مِنِّي كَهَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّه لَا نَبِيَّ بَعْدِي».[10]

فالإمام علي (عليه السلام) كان في مقام النبوة وليس بنبي، لكن كان تابعا لشريعة سيد المرسلين، ومطيعا لخاتم النبيين محمد (صلى الله عليه وآله)، ولذا لم ينزل عليه وحي بل نزل على محمد (صلى الله عليه وآله)، كما أن هارون كان نبياً في زمن موسى بن عمران إلا أنه كان تابعاً ومطيعاً لأخيه موسى (عليه السلام).

أعمال يوم المباهلة:

الأول: الغسل.

الثاني: الصيام.

الثالث: الصلاة ركعتين كصلاة عيد الغدير وقتاً وصفةً وأجرَاً، ولكن فيها تقرأ آية الكرسي الى هم فيها خالدون.

الرابع: أن يدعو بدعاء المباهلة وهو يشابه دعاء أسحار شهر رمضان كما ذكره الشيخ عباس القمي في مفاتيح الجنان ص321.

وينبغي التصدق في هذا اليوم على الفقراء تأسيا بمولى كل مؤمن ومؤمنة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وينبغي أيضاً زيارته (عليه السلام) والأنسب قراءة الزيارة الجامعة.

والحمد لله رب العالمين

 

لتحميل الملف اضغط هنا


[1] سورة آل عمران: 61.

[2] لسان العرب 11/72.

[3]مجمع البحرين: للطريحي: ج5 ص327.

[4] عدة الداعي: لابي فهد الحلي: ص 200.

[5] بحار الأنوار: ج21 ص285.

[6] مجمع البحرين: للطريحي: ج2، 248، ومناقب آل ابي طالب: ج3، ص144.

[7] آل عمران:61.

[8]  الكشاف: ج1، 370.

[9] تفسير الفخر الرازي: 7/85.

[10] الكافي: الشيخ الكليني ج8 ص26.