﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾[1].
الآية الكريمة تعرض نهياً من نواهي الشريعة على المسلمين، ولو كان قد جاء بسبب حادثة حدثت فيها إساءة في محضر النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك حين جاء وفدٌ من بني تميم على النبيِّ الكريم (صلى الله عليه وآله) ودخلوا المسجدَ الشريف وعرضَ عليهم الرسولُ (صلى الله عليه وآله) الإسلام وعلمهم أصولَ الدين والإيمان بالبراهين والحُجج القاطعة فسلموا له ودخلوا في دين الإسلام، وكان النبيِّ (صلى الله عليه وآله) في تعامله مع وفود القبائل أن يجعل على الوفدٍ أحدَ من المسلمين ليبلغهم تعاليم الدين وعقائده وأحكامه.
وعندما أراد أن يفعل ذلك مع وفد بني تميم، اختار أبو بكرٍ – قبل أن يعيِّن الرسولُ (صلى الله عليه وآله) أحداً - القعقاع بن معبد، فاعترض عمَّر على تعيين أبي بكر، وأشار على النبي (صلى الله عليه وآله) بالأقرع بن حابس.
فقال أبو بكرٍ لعمر – بمحضر النبي (صلى الله عليه وآله) -: ما أردتَ إلَّا خلافي.
فقال عمر: ما أردتُ خلافَك، ولكنِّي أرى أنَّ الأصلح هو الأقرع.
قال: بل الأصلح هو القعقاع.
فأخذا يتجادلان حتى ارتفعتْ أصواتُهما، كل ذلك في محضر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخذ كلٌّ منهما يُحاول تثبيت رأيه ورسولُ الله (صلى الله عليه وآله) يسمع ويرى ويتألم، فنزلت الآيتان الكريمتان نهياً لهما ولغيرهما عن تكرار هذا الفعل غير اللائق في حضرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله). [2]
إن الإيمان بما جاء النبي (صلى الله عليه وآله) من العقائد والأحكام واجب على كل المسلمين، لكنه لابد أن يتضمن حفظ مقامات الأولياء عن كل ما يصدق عليه الهتك وقلة الاحترام، لاسيما مقام النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فماذا فعل الشيخان لتنزل آية خاصة تنهى عن فعلهما؟
حسب ما ورد من روايات في سبب النزول ثمة أمران نهت عنهما الآية الكريمة:
الأول: اقتراح شخص قبل أن يأذن لهما النبي (صلى الله عليه وآله)، وهذا فعل تقدَّما فيه على رسولِ الله (صلى الله عليه وآله) من غير إذنه وقدما رأيهما على رأيه، رُغم أنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله) لم يطلبْ مشورتهما أو رأيهما، وكلٌّ منهما، مُعتقداً أنَّ رأيه أصوب وأفضل من رأي الآخر.
الثاني: رفع الصوت في محضر الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)، وهذا أمر سيء جداً من الناحية الأخلاقية، وهي من بديهيات القضايا الأخلاقية، ليس في مقام الأنبياء والأولياء بل في مقام الآباء والمعلمين والأساتذة والشيوخ وغيرهم، فكيف بمقام من اصطفاه الله لرسالته ودينه.
كما أن الآية الكريمة لم تحصر النهي بقصد الإساءة إلى المقام فحسب بل حتى مع عدم قصد الإساءة وقلة الذوق فإن التقدم على النبي (صلى الله عليه وآله) في القول والرأي بنفسه إساءة وتجاوز، وذلك قوله تعالى: (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) يعني حتى مع عدم شعوركم وقصدكم الإساءة فهي متحققة، وتصنف على رذائل الأفعال.
وفي هذا البيان القرآني أيضاً إشارة للمؤمنين في أن يراعوا أقصى مراتب الأدب في حضرة النبي (صلى الله عليه وآله)، كذلك مراعاة حسن الأدب في الخطاب والمواقف والحركات، حتى تصبح ملكة وخلقاً ثابتاً عند المؤمن، كما امتدح القرآن الكريم أصحاب حسن الأدب في قوله تعالى: (إنَّ الذينَ يغُضُّون أصْوَاتَهُم عندَ رسُولِ اللهِ أولئِكَ الذِينَ امتحنَ اللهُ قلُوبَهُم للتَّقوَى، لهُم مَّغْفِرَةٌ وأجْرٌ عظيم.)[3]
فالمؤمنُ الذي يسلم بدينه لله تعالى لا يتخطَّى شرعة الله التي أنزلها لعباده، بل لا يجد لنفسه اختياراً أو رأياً في مقابل حكم الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾، وقال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.[4]
وهنا قد يسأل سائل: هذا النهي صدر في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) وشخصه حاضر بين المسلمين، فكيف يكون هذا بيننا في زماننا؟
بعبارة أخرى: كيف نراعي حسن الأدب من النبي (صلى الله عليه وآله) في زماننا؟
نقول ثمة موارد كثيرة لذلك، فالآية الكريمة تشمل – في زماننا - مثلاً النهي في أنْ يتبنَّى المسلمُ رأياً أو موقفاً أو فكرةً معينة تخالف ما عليه الشريعة من العقائد والأحكام، فذلك نوع من التقدّم على الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، بل هذا الأمر منتشر في بعض الأوساط المنسوبة للثقافة، فلا يتحرّج البعض في أنْ ينظّر في أمور الشريعة، بل ويصدر أحكاماً بالتصويب والتخطئة، مستنداً إلى ما يوافق هواه وما يستحسنُه ذوقُه الشخصي، وهذا - كما قلنا - مشهور منتشر في جميع الموارد الشرعية، مثل أحكام الأسرة وأحكام الزواج وشروطه، فلا يعتبر ما ينافي ذوقِه واستحسانه صحيحاً، بل يتهجم على الأسس الشرعية للأحكام، فيرى مثلاً الولاية على البكر في الزواج إجحافٌ بحقِّ البنت، وينظر إلى أن الطلاق من حق الرجل دون المرأة ظلمٌ للزوجة.
إنَّ مثل هذه النظرات والأفكار هو من أجلى صور التقدم بالرأي على الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) في هذا الزمان، وهو تجاوز واضح لحدود الله تعالى، وإن مرد أصحاب هذا التفكير إلى الجهل والتكبر، فهم يرون أنفسهم عارفين بما يُصلحهم من الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) لذلك يقدِّمون رؤيتَهم ومتبنياتِهم على ما شرَّعه الله تعالى ورسولُه (صلى الله عليه وآله) من الأحكام.