من العقائد التي تعتقد بها الشيعة الإمامية (التقية) ومعناها إظهار الموافقة للمخالف في اعتقاد أو حكم شرعي عند الخوف من ظلمه وبطشه.
وقد ورد مفهومها في القرآن الكريم في قوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[1].
قال الطبري: قد نزلت الآية في جماعة أكرهوا على الكفر، وهم عمار وأبوه ياسر وأمه سمية، وقتل الأبوان لأنهما لم يظهرا الكفر ولم ينالا من النبي، وأعطاهم عمار ما أرادوا منه، فأطلقوه، ثم أخبر عمار بذلك رسول الله، وانتشر خبره بين المسلمين، فقال قوم: كفر عمار، فقال الرسول: «كلا إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه». وفي ذلك نزلت الآية السابقة، وكان عمار يبكي، فجعل رسول الله يمسح عينيه ويقول: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت»[2].
وقال الزمخشري: روي أن أناسا من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه، وكان فيهم من أكره وأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان، منهم عمار بن ياسر وأبواه: ياسر وسمية، وصهيب وبلال وخباب. أما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها...[3]
وقد كثرت الروايات عن الأئمة (عليهم السلام) في هذا المضمون فقد روى علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن حريز، عمن أخبره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) قال: الحسنة: التقية والسيئة: الاذاعة، وقوله عز وجل: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة) قال: التي هي أحسن التقية، (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)[4].
كذلك عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد، والحسين بن سعيد جميعا، عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي، عن حسين بن أبي العلاء عن حبيب بن بشر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): سمعت أبي يقول: لا والله ما على وجه الأرض شيء أحب إلى من التقية، يا حبيب إنه من كانت له تقية رفعه الله، يا حبيب من لم تكن له تقية وضعه الله، يا حبيب إن الناس إنما هم في هدنة فلو قد كان ذلك كان هذا[5].
وعن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي، عن درست الواسطي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف إن كانوا ليشهدون الأعياد ويشدون الزنانير فأعطاهم الله أجرهم مرتين[6].
وروى الصدوق: وقيل للصادق (عليه السلام): يا ابن رسول الله، إنا نرى في المسجد رجلا يعلن بسب أعدائكم ويسميهم، فقال: «ما له لعنه الله يعرض بنا». وقال الله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)[7].
ثم إنه لنا أن نقول إنّ التقية من المفاهيم الإسلامية الأصيلة التي شرّعها اللّه عزّ وجلّ لتكون تُرساً للمؤمن، ووقاءً لعرضه وكرامته حيثما وجد نفسه لا يقوى على مقاومة الظالمين. ولقد أكّدتها السُنّة المطهّرة قولاً وفعلاً، واستعملها الصحابة والتابعون ومن تابعهم بإحسان، وأقرّها جميع الفقهاء والمحدّثين والمفسّرين من سائر المذاهب والفرق الإسلامية. ووافقت حكم العقل، لأن احتمال الضرر في شيء ما يلزم العاقل تجنّبه إذا ما استحق صاحبه اللائمة لو أقدم عليه، وهذا هو ما عُرف عند اُصوليي المذاهب الإسلامية بقاعدة: (وجوب دفع الضرر المحتمل)، كما أنّ لقاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات) علاقة وطيدة بالتقية، مما يكشف عن مدى تغلغل هذا المفهوم ألإسلامي في كثير مما يصدق عليه عنوان: (الضرر) أو (الإكراه)، سواء أكان ذلك في أُصول العقائد الإسلامية، أو الأحكام الشرعية الفرعية، بل وحتى في الآداب والأخلاق العامة كما سيتّضح في فصول هذا البحث. فالتقية إذاً ليست هي -كما يتصوّرها البعض- من مختصّات مذهب معين من مذاهب المسلمين؛ إذ أجمع الكل من المالكية، والحنفية، والشافعية، والحنبلية، والظاهرية، والطبرية، والمعتزلة، والزيدية، والخوارج، والوهابية على مشروعيتها، واستدلّوا على ذلك بالكتاب، والسُّنّة، والإجماع.
نعم قلنا إن الشيعة الإمامية الإثني عشرية اختصت دون غيرها من المذاهب الإسلامية بهذا المفهوم، لتحقق موضوع التقية فيهم، ولا يخفى ذلك على من درس تاريخ التشيّع دراسة موضوعية، ووقف على المعاناة الطويلة الأمد التي مرّ بها الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام)، وبأزمان متوالية كان يُنظر فيها إلى التشيّع -تبعاً لعوامل السياسة والتعصب- بأنه جريمة لا تغتفر، أوَليس شتم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) على منابر المسلمين - وهو خليفتهم بالأمس - ومطاردة أصحابه، وتشريدهم أي مشرد والتنكيل بمن وقع في قبضة السلطة، وتعذيبهم، وقتلهم وصلبهم على جذوع النخيل مبرراً كافياً لمن نجا منهم أن يلوذ بما شرّعه اللّه تعالى وأكّدته السُّنّة ليحفظ من خلاله دمه وعرضه وكرامته؟
مجلة اليقين العدد (10)