بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله المعصومين المنتجبين
من السنن الظاهرة في الشرائع السماوية أنها اختارت أماكن وأشخاصا وأزمنة فأولتها اهتماما بالغا، وجعلت لها عدة من المقدمات وجملة من الأعمال الخاصة بها، كما أشارت إلى استحباب الأعمال التي تؤدى في هذه الأماكن والأزمنة، وجعلت لها أجرا وثوابا، فمثلا من الأزمنة المختارة الأشهر الحرم الأربعة، وكذلك شهر رمضان المبارك حيث فضّله تعالى على سائر الشهور، واختار منه ليلة كانت خيرا من ألف شهر وهي ليلة القدر، قال تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[1]، وهناك أشخاص لهم قدسية ودرجة رفيعة عند الله سبحانه وتعالى كالأنبياء والرسل والأئمة، بل كل إنسان مؤمن، فقد ورد عنهم (عليهم السلام): (إن الله تبارك وتعالى أطلع إلى الأرض فاختارنا، واختار لنا شيعة، ينصروننا ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا أولئك منا وإلينا)[2]، وهناك أماكن اهتمت بها الشريعة وجعلت لها قدسية واضحة وجعلتها مرتبطة بالخالق (جل وعلا)، فنحن نجد أن الله سبحانه وتعالى أمر الناس أن يتخذوا البيوت التي يسكنها الأنبياء قبلة لهم، حيث قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ)[3]، كما يُعبر القران الكريم عن بعض الأماكن كبيوت النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام) والكعبة المعظمة والمساجد والجوامع بأنها بيوت الله، حيث قوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ)[4]، فهذه الأماكن لها قدسية واحترام وأهمية عند الشريعة المقدسة، ونجد أن الشريعة المقدسة وضعت لها جملة من الأحكام والآداب لابد من مراعاتها، فمثلا من هذه الأحكام أن الذي يريد الدخول إلى هذه الأماكن لا يتسنى له الدخول إلا إذا كان على طهارة، ومن جملة الآداب مثلا تحية المسجد وغيرها، ومن شاء المزيد فليراجع الكتب الفقهية.
ولعل الكعبة أيضا أخذت النصيب الأوفر من هذه المراعاة، فالقران الكريم يصف لنا حال من أراد الاعتداء عليها بقوله تعالى في سورة الفيل: (بسم الله الرحمن الرحيم أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ*) فقد حماها الله من السوء ومن كيد من أراد بها شرا، وأظهر فيهم قدرته وجبروته، لئلا يتجرأ بعد ذلك متجرؤٌ ويعتدي على حرم الله تعالى، بل تجد هذا المعنى مما يفهمه حتى العجماوات من الحيوانات، فإليك ما ورد عن آبي عبد الله (عليه السلام) في محاولة هدم البيت، حيث قال: (لما أقبل صاحب الحبشة بالفيل يريد هدم الكعبة مروا بإبل لعبد المطلب فاستاقوها فتوجه عبد المطلب إلى صاحبهم يسأله رد إبله عليه فاستأذن عليه فأذن له، وقيل له: إن هذا شريف قريش أو عظيم قريش وهو رجل له عقل ومروة فأكرمه وأدناه ثم قال لترجمانه: سله، ما حاجتك؟ فقال له: إن أصحابك مَرّوا بإبل لي فاستاقوها فأحببت أن تردها عَليّ، قال: فتعجب من سؤاله إياه رد الإبل، وقال: هذا الذي زعمتم أنه عظيم قريش وذكرتم عقله يدع أن يسألني أن أنصرف عن بيته الذي يعبده، أما لو سألني أن أنصرف عن هدمه لانصرفت له عنه، فأخبره الترجمان بمقالة الملك فقال له عبد المطلب: إن لذلك البيت ربا يمنعه وإنما سألتك رد إبلي لحاجتي إليها، فأمر بردها عليه، ومضى عبد المطلب حتى لقي الفيل على طرف الحرم فقال له: محمود، فحرك رأسه، فقال له: أتدري لِمَ جيء بك؟ فقال برأسه: لا، فقال: جاؤوا بك لتهدم بيت ربك، أفتفعل؟ فقال برأسه لا، قال: فانصرف عنه عبد المطلب، وجاؤوا بالفيل ليدخل الحرم، فلما انتهى إلى طرف الحرم امتنع من الدخول فضربوه فامتنع من الدخول فضربوه فامتنع فأداروا به نواحي الحرم كلها كل ذلك يمتنع عليهم فلم يدخل، وبعث الله عليهم الطير كالخطاطيف في مناقيرها حجر كالعدسة أو نحوها، فكانت تحاذي برأس الرجل، ثم ترسلها على رأسه فتخرج من دبره، حتى لم يبقَ منهم أحد إلا رجل هرب، فجعل يحدث الناس بما رأى إذ طلع عليه طائر منها، فرفع رأسه، فقال: هذا الطير منها، وجاء الطير حتى حاذى برأسه ثم ألقاها عليه فخرجت من دبره فمات)[5].
وجُعلت للكعبة عدة من الأحكام والآداب بعضها مختصة بها دون سواها، وذلك لعدة من الأسباب، فهي تعتبر أول بيت وضع للعبادة على وجه الأرض، قال الله تعالى في كتابه الكريم: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)[6]، وتأكيدا لحرمتها وقداستها جعلت الشريعة المقدسة زيارتها واحدة من الفرائض على المسلمين، قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ)[7]، فمن أتى بالواجب له الأجر والحسنى، ومن خالف فله العقاب، بل بعض الروايات اعتبرته خارجا عن ملة الإسلام، كما أن هذه الفريضة لا تتم إلا بالطواف حول الكعبة، وجُعلت لمن أراد الدخول الى الكعبة بعض الواجبات والشروط لابد من الإتيان بها حتى يتسنى له الدخول إلى هذا المكان المقدس، ومن هذه الواجبات والشروط انه لابد من الإحرام من أماكن محددة لمن رام الدخول للحرم، وهنا تجدر الإشارة الى أن حريم الكعبة هو المسجد الحرام وحريم المسجد هو مكة وحريم مكة هو الحرم، فلابد لمن أراد زيارة بيت الله تعالى الإتيان بجملة من الأعمال منها الإحرام من المواقيت التي حددها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بأمر الله تعالى، ولبس ثوبي الإحرام وغيرها، ولعل من المميزات الرئيسة للكعبة المعظمة: أن من دخلها كان آمنا، قالت الآية المباركة: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً)[8]، فمن دخل الحرم وهو ممن ارتكب جرما خارج الحرم لا يجوز التعرض له ولا يمكن إيذائه، نعم يُتخذ بحقه بعض الإجراءات والتي منها أن لا يكلمه أحد ولا يُباع له الأكل ويُضيق عليه بالأكل والشرب حتى يُضطر للخروج من الحرم، حيث ورد في الروايات عن المعصومين (عليهم السلام) ذلك، منها ما ورد عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعن محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعا، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل قتل رجلا في الحل ثم دخل الحرم ؟ فقال: (لا يقتل ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع ولا يؤوى، حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد)، قلت: فما تقول في رجل قتل في الحرم أو سرق؟ قال: (يقام عليه الحد في الحرم صاغرا، إنه لم ير للحرم حرمة، وقد قال الله عز وجل: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)، فقال: هذا هو في الحرم، وقال: (لا عدوان إلا على الظالمين))[9].
وعلى هذا تربى ودرج أتباع أهل البيت في عدم انتهاك حرمة الكعبة وذلك لا لشيء إلا لأنهم يتبعون النبي (صلى الله عليه وآله) وخلفاءه المعصومين، فهم الذين ينطبق عليهم اسم أهل السنة لا غيرهم، فإن التاريخ يحدث أن النبي (صلى الله عليه وآله) حين دخل مكة فاتحا أمر باحترامها وعدم انتهاك حرمتها، أما غيرهم ممن يحاول أن يسمي نفسه أهل السنة والجماعة فنجدهم لا يرعون للكعبة قدسية أبدا، فقد رموها بالمنجنيق واحرقوها بل هدموها، حيث ذكرت كتب الفريقين أن من يسمى عند البعض خليفة المسلمين أمر بضرب الكعبة بالمنجنيق وحرقها وهدمها، فهذا الحصين بن نمير وهو من كبار القادة في جيش يزيد (لع) قد فعل ذلك - بل إن هذا المجرم ارتكب أكثر من ذلك فهو ممن اشترك في قتل ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يذكر ابن الأثير وهو من كبار علماء العامة في كتابه الكامل في التاريخ ج4، ص76: (واشتد عطش الحسين فدنا من الفرات ليشرب فرماه حصين بن نمير بسهم فوقع في فمه فجعل يتلقى الدم بيده ورمى به إلى السماء ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: اللهم أشكو إليك ما يصنع بابن بنت نبيك اللهم أحصهم عددا وأقتلهم بددا ولا تبقي منهم أحدا)) !. نعم ذكرت مصادر الفريقين بأنه فعل ذلك[10]، وكذلك المسعوديّ في مروج الذهب، ج٣، وابن قتيبة في الإمامة والسياسة، ج٢، وغيرهم الكثير، وفي بصائر الدرجات ص٤٣٣، بسنده عن جابر، عن الباقر (عليه السلام) قال: (دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أصحابه بمنى فقال:... يا أيّها الناس، إنّي تارك فيكم حرمات الله، وعترتي، والكعبة البيت الحرام، ثمّ قال أبو جعفر: أمّا كتاب الله فحرّفوا، وأمّا الكعبة فهدموا، وأمّا العترة فقتلوا...) وعلى أيّ حال، فقد أحرقوا الكعبة وهدموها مرتين، الأولى على يد الحصين بن نمير، والثانية على يد الحجّاج لعنهما الله، وكانت المرّتان بسبب عبد الله بن الزبير ومقاتلته في الكعبة:
أمّا الأولى: فقد أحرق الحصين بن نمير الكعبة المشرّفة وهدمها في أواخر أيّام يزيد (لعنه الله)، وبأمره، وذلك بعد وقعة الحرّة الأليمة وانتهاك حرمة المدينة، فلما كان يوم السبت ثالث ربيع الأول سنة أربع وستين نصبوا المجانيق على الكعبة ورموها حتى بالنار، فاحترق جدار البيت في يوم السبت.
وأمّا المرّة الثانية: فقد أحرق الحجّاج الكعبة المشرّفة في محاصرته لعبد الله بن الزبير في سنة ٧٣ هـ، حيث حاصره ستّة أشهر وسبع عشرة ليلة،كما نصّ على ذلك الطبريّ في تاريخه (ج 5:25)، وكان الحجّاج يرمي الكعبة بنفسه. وتجدر الإشارة الى أن مكّة والبيت الحرام واغلب الأمصار الإسلامية آنذاك بيد ابن الزبير من سنة ٦٤هـ حتّى سنة ٧٣ هـ، وكان هو يقيم الحجّ للناس، وكان يأخذ البيعة لنفسه من الحِجّاج، مما حدا بعبد الملك بن مروان أن يُلغي فريضة الحج التي أمر الله تعالى بها!، فقد ذكر ابن خلكان في وفيات الأعيان، ج٣: ٧١، في ترجمة عبد الله بن الزبير: (أن عبد الملك بن مروان منع أهل الشام من الحج من أجل [أن] ابن الزبير كان يأخذ الناس بالبيعة له إذا حجوا، فضج الناس لما منعوا الحج فبنى عبد الملك في بيت المقدس الصخرة فكان الناس يحضرونها يوم عرفة ويقفون عندها). فانظر عزيزي المسلم الى هذا التلاعب بالدين ممن يعدهم القوم من خلفاء النبي (صلى الله عليه وآله)، بل أكثر من ذلك خلفاء الله!!!. هذا وقد ورد في حرمة وعظمة الكعبة عن النبي (صلى الله عليه وآله): قوله: (لن يعمل ابن آدم عملا أعظم عند الله عز وجل من رجل قتل نبيا أو اماما، أو هدم الكعبة التي جعلها قبلة لعباده)[11].
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير الانام محمد واله محمد.
لتحميل الملف اضغط هنا
[1] سورة القدر: ا-5.
[2] الخصال للشيخ الصدوق ص635.
[3] سورة يونس: 87.
[4] سورة النور: 36.
[5] راجع الكافي ج4 ص216؛ وجامع أحاديث الشيعة للسيد البروجردي، ج10، ص43.
[6] سورة آل عمران: 96.
[7] سورة آل عمران: 97.
[8] سورة آل عمران:97.
[9] الكافي ج4 ص228.
[10] انظر تاريخ الطبري ج4، والبداية والنهاية ابن كثير الجزء: 8، ص246.
[11] راجع جامع أحاديث الشيعة للسيد البروجردي، ج4، ص 582.