قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[1].
في هذه الآية المباركة يبيّن الله تعالى مراحل الحياة البشرية، وكيفية ظهور الدين لإصلاح المجتمع بواسطة الأنبياء (عليهم السلام) وذلك على مراحل:
المرحلة الأولى: مرحلة حياة الإنسان الابتدائية حيث لم يكن الإنسان قد أَلِف الحياة الاجتماعية، ولم تبرز في حياته التناقضات والاختلافات، وكان يعبد الله تعالى استجابة لنداء الفطرة، ويؤدي له فرائضه البسيطة، وهذه المرحلة يحتمل أن تكون في الفترة الفاصلة بين آدم ونوح (عليهما السلام).
المرحلة الثانية: وفيها اتخذت حياة الإنسان شكلاً اجتماعياً، ولابد أن يحدث ذلك لأنه مفطور على التكامل، وهذا لا يتحقق إلا في الحياة الاجتماعية.
المرحلة الثالثة: هي مرحلة التناقضات والاصطدامات الحتمية بين أفراد المجتمع البشري، بعد استحكام وظهور الحياة الاجتماعية، وهذه الاختلافات سواء كانت من حيث الإيمان والعقيدة، أو من حيث العمل، وتعيين حقوق الأفراد والجماعات، تحتّم وجود قوانين لرعاية وحل هذه الاختلافات، ومن هنا نشأت الحاجة الماسة إلى تعاليم الأنبياء وهدايتهم.
المرحلة الرابعة: وتتميز ببعث الله تعالى الأنبياء لإنقاذ الناس، حيث تقول الآية: (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ)[2].
فمع الالتفات إلى تبشير الأنبياء وإنذارهم يتوجه الإنسان إلى المبدأ والمعاد، ويشعر أن وراءه جزاء على أعماله، فيحسّ أن مصيره مرتبط مباشرة بتعاليم الأنبياء، وما ورد في الكتب السماوية من الأحكام والقوانين الإلهية لحلِّ التناقضات والنزاعات المختلفة بين أفراد البشر، لذلك تقول الآية (وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)[3].
المرحلة الخامسة: هي التمسك بتعاليم الأنبياء، وما ورد في كتبهم السماوية؛ لإطفاء نار الخلافات، والنزاعات المتنوعة (الاختلافات الفكرية والعقائدية والاجتماعية والأخلاقية).
المرحلة السادسة: واستمر الوضع على هذا الحال حتى نفذت فيهم الوساوس الشيطانية، وتحركت في أنفسهم الأهواء النفسانية، فأخذت طائفة منهم بتفسير تعليمات الأنبياء(عليهم السلام) والكتب السماوية بشكل خاطئ، وتطبيقها على مرادهم، وبذلك رفعوا علم الاختلاف مرة ثانية، ولكن هذا الاختلاف يختلف عن الاختلاف السابق، لأن الأول كان ناشئا عن الجهل، وعدم الاطلاع حيث زال وانتهى ببعث الأنبياء(عليهم السلام) ونزول الكتب السماوية، في حين أن منبع الاختلافات الثانية هو العناد، والانحراف عن الحق مع سبق الإصرار والعلم، والذي أُشير إليه بكلمة: (البغي)، وبهذا تقول الآية بعد ذلك: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)[4].
المرحلة السابعة: الآية الكريمة بعد ذلك تقسّم الناس إلى قسمين، القسم الأول المؤمنون الذين ينتهجون طريق الحق والهداية، ويتغلبون على كل الاختلافات بالاستنارة بالكتب السماوية وتعليم الأنبياء، فتقول الآية: (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ)، في حين أن الفاسقين والمعاندين ماكثون في الضلالة والاختلاف.
وختام الآية تقول (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهذه الفقرة إشارة إلى حقيقة ارتباط مشيئة الله تعالى بأعمال الأفراد، فجميع الأفراد الراغبون في الوصول إلى الحقيقة يهديهم الله تعالى إلى صراط مستقيم، ويزيد في وعيهم وهدايتهم وتوفيقهم في الخلاص من الاختلافات، والمشاجرات الدنيوية مع الكفار وأهل الدنيا، ويرزقهم السكينة والاطمئنان، ويبيّن لهم طريق النجاة والاستقامة.
بداية التشريع:
يتضح من الآية الشريفة أن بداية انبثاق الدين بمعناه الحقيقي كانت مقترنة مع ظهور المجتمع البشري بمعناه الحقيقي، من هنا نفهم سبب كون نوح (عليه السلام) أول أنبياء أولوا العزم، وأول أصحاب الشريعة والرسالة لا آدم (عليه السلام).
حل الاختلافات من أهم أهداف الدين:
هناك عدة أهداف للأديان الإلهية، منها تهذيب النفوس البشرية، وإيصالها إلى مقام القرب الإلهي، ولكن من أهم الأهداف أيضاً هو رفع الاختلافات، لأن هناك بعض العوامل من قبيل: القومية واللغة والمناطق الجغرافية وغيرها، دائماً تكون عوامل تفرقة بين المجتمعات البشرية، والأمر الذي بإمكانه أن يوحّد هذه الحلقات المختلفة، ويكون بمثابة حلقة اتصال بين أفراد البشر من مختلف القوميات والألوان واللغات والمناطق الجغرافية هو الدين الإلهي، حيث أن بإمكانه أن يهدم جميع هذه السدود، ويزيل تمام هذه الحدود، ويجمع البشرية تحت راية واحدة بحيث نرى نموذجاً من ذلك في مناسك الحج العبادية والسياسية.
وعندما نرى أن بعض الأديان والمذاهب هي السبب في الاختلاف، والنزاع بين طوائف البشر، فذلك لأنها قد خالطتها الخرافات، واقترنت بالتعصب الأعمى، وإلا فإنّ الأديان الإلهية لو لم تتعرض للتحريف لكانت سبباً للوحدة في كل مكان.
الدليل على عصمة الأنبياء (عليهم السلام):
يذكر (العلامة الطباطبائي) في الميزان بعد أن يقسّم عصمة الأنبياء (عليهم السلام) إلى ثلاثة أقسام:
1 - العصمة من الخطأ عند نزول الوحي واستلامه.
2 - العصمة من الخطأ في تبليغ الرسالة.
3 - العصمة من الذنب، وما يؤدي إلى هتك حرمة العبودية لله.
يقول: إن الآية مورد البحث دليل على عصمة الأنبياء (عليهم السلام) من الخطأ في تلقي الوحي وتبليغ الرسالة، لأن الهدف من بعثتهم هو البشارة والإنذار للناس، وبيان العقيدة الحقة في الاعتقاد والعمل، وبذلك يمكنهم هداية الناس عن هذا الطريق، ومن الواضح أن هذا الهدف لا يتحقق بدون العصمة في تلقي الوحي وتبليغ الرسالة.
القسم الثالث من العصمة يمكن استفادته من هذه الآية أيضاً، لأنه لو صدر خطأ في تبليغ الرسالة لكان بنفسه عاملاً على الاختلاف، ولو حصل تضاد بين أعمال وأقوال الأنبياء الإلهيين بارتكابهم الذنب، فيكون أيضاً عاملاً وسبباً للاختلاف، وبهذا فإن الآية أعلاه يمكن أن تكون إشارة إلى عصمة الأنبياء (عليهم السلام) في جميع الأقسام الثلاثة المذكورة[5].
مجلة بيوت المتقين العدد (57)