أديب ... فارس ... عالم
بسم الله الرحمن الرحيم
هناك مِنْ الأسماء مَن خلّدها التأريخ لجهودهم التي حفظتها لهم البشرية على مر الزمان، فكانوا نجوما في سمائها، في مجالات الحياة كافة، ومن هؤلاء المشاهير التابعي الجليل أبو الأسود الدؤلي الذي امتاز بخصال كثيرة جعلته مبرّزا في قومه، حتى ذاع صيته واشتهر بكثرة فضائله وإنجازاته الفكرية، فقد كان شاعرا وخطيبا ومقاتلا شرسا لازم أمير المؤمنين (عليه السلام) في حروبه، ونهل من فيض علومه حتى كلّفه أمير المؤمنين (عليه السلام) بوضع أسس النحو وقواعده، ونقط حروف العربية إلى غير ذلك مما يأتي ذكره.
اسمه ونسبه:
هو ظالم بن عمرو بن سفيان بن بكر بن عبد مناف بن كنانة، حيث ينتهي نسبه إلى مُضَر بن نزار، والدؤلي أو الدائل هو أحد أجداده.
كنيته:
أبو الأسود، وقد طغت كنيته على اسمه فاشتهر بها، علماً بأنه لم يكن ذا بشرة سوداء على الأغلب، وليس له ولد اسمه أسود، وقد رضي أبو الأسود لنفسه هذه الكنية؛ لأن اسمه ثقيل (ظالم) على السمع، مع أنه يتنافى مع مكانته الاجتماعية وكونه قاضياً يتصف بالعدل، فأبعد اسمه عن نفسه حتى لا يؤثر على المظلوم.
ولادته ونشأته:
ولد أبو الأسود سنة (16) قبل الهجرة، وقد وُلد على الأكثر في اليمن، وكان الإمام علي (عليه السلام) في اليمن على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) فصحبه وآزره بشعره منذ نعومة أظفاره.
إسلامه:
من الثابت أنه أسلم في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا أنه اختُلف في أنه متى دخل الإسلام، وأغلب رجال التأريخ اعتبروه من تابعي الصحابة، فهو لم ير النبي(صلى الله عليه وآله)، والظاهر أنه أسلم في أواخر حياة النبي(صلى الله عليه وآله).
والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هو أنه لماذا لم يتشرَّف برؤية خاتم الأنبياء والمرسلين محمد (صلى الله عليه وآله)؟
والجواب: قد يكون السبب في ذلك هو البعد المكاني، فإنه قد وُلد باليمن، أو خارج مكة حيث كانت تقطن كنانة، ثم دخل المدينة في زمن عمر بن الخطاب في الوقت الذي كان فيه المرض والناس يموتون موتاً ذريعاً.
وكان أبو الأسود الدؤلي عَلَوِيَّ المذهب، معدوداً في التابعين والفقهاء، والمحدثين والشعراء، والأشراف والفرسان، والأمراء والدُّهاة، والنُّحاة والحاضري الجواب.
قال الحافظ السيوطي: (كان أبو الأسود الدؤلي من سادات التابعين، ومن أكمل الرجال رأياً، وأشدِّهم عقلاً، شيعياً شاعراً، سريع الجواب ثقة في حديثه، وصحب علي بن أبي طالب وشهد معه صفين)[1].
آثاره العلمية:
أبو الأسود مفخرة من مفاخر الفصاحة والبلاغة، فهو أول من وضع النحو العربي بأمر من الإمام علي(عليه السلام)، وكان السبب في ظهور علم النحو ظهور اللحن في الكلام وفي قراءة القرآن الكريم حين ازداد الاختلاط والتشابك بين المسلمين العرب وغيرهم من المسلمين الأعاجم، وخاصة في البصرة حيث أنها مركز تجاري حضاري، كثر فيه الاختلاط وظهر اللحن بأجلى صوره وشيوعه، حتى وصل إلى بيت أبي الأسود الدؤلي حين لَحَنَتْ ابنته أمامه.
كما ازداد اللحن في قراءة القرآن الكريم، وسمعت آيات عديدة لحنت فيها القراءة بحيث تغيَّرت معانيها، وحفاظاً على القرآن الكريم من التحريف والخطأ والانحراف، وصيانة لِلَّغة العربية وضع أبو الأسود الدؤلي أُسُسَ علم النحو، وهذه الأسس هي التي أخذها عن الإمام علي(عليه السلام)، قال أبو الأسود الدؤلي: دخلت على علي بن أبي طالب(عليه السلام) فرأيته مطرقا متفكرا فقلت فيم تفكر يا أمير المؤمنين؟
قال(عليه السلام): (إني سمعت ببلدكم هذا لحنا فأردت أن أصنع كتاباً في أصول العربية، فقلت: إذا فعلت هذا أحييتنا وبقيت فينا هذه اللغة، ثم أتيته بعد ثلاث فألقى إليّ صحيفة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل، ثم قال لي: تتبّعه وزد فيه ما وقع لك واعلم يا أبا الأسود أن الأشياء ثلاثة ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بظاهر ولا مضمر، قال أبو الأسود: فجمعت عنه أشياء وعرضتها عليه، فكان من ذلك حروف النصب، فذكرت منها إنَّ وأنَّ وليت ولعل وكأن، ولم أذكر لكن فقال لي: لم تركتها؟ فقلت لم أحسبها منها، فقال: بلى هي منها، فزاد لي فيها)[2].
والعمل الآخر الذي بقي خالداً هو تنقيط وتشكيل القرآن الكريم، فهو أوَّل من نَقَّطَ وشَكَّل القرآن، وهناك مصحف مشكّل بخط الدؤلي في خزانة الكتب الرضوية في مشهد إيران.
سيرته في عهد الإمام علي(عليه السلام):
رُحِّل أو هاجر أبو الأسود إلى البصرة في عهد عمر بن الخطاب، ولم نسمع له ذكراً أو دوراً هناك لا في زمن عمر ولا في عهد عثمان، وحينما بايع الناس الإمام علياً(عليه السلام) بالخلافة نشطت براعم الدؤلي بالبصرة، وتَقَلَّد أسمى مراتب الدولة، فأصبح قاضياً، ثم مدير دائرة الصدقات والجند، ثم والياً على البصرة بعد ابن عباس، وقد كان له دور كبير ورئيس في حرب الجمل، إذ قام وسيطاً بين الإمام علي(عليه السلام) وعائشة وطلحة والزبير.
وبعد حرب الجمل اشترك أبو الأسود الدؤلي في حرب صفين، فقد صاحب الإمام علياً (عليه السلام)، ولم يرضَ بأبي موسى الأشعري في التحكيم، وبعد الانكسار المعنوي في صِفِّين كان أبو الأسود الدؤلي قائداً للجيش الذي حارب الخوارج.
ثم بعد ذلك رجع إلى البصرة وتَلَقَّى هناك خبر استشهاد الإمام علي (عليه السلام)، فصعد المنبر وخطب الناس ونعى إليهم أمير المؤمنين (عليه السلام) وبكاه، فقال في خطبته:
وإن رجلاً من أعداء الله المارقة عن دينه قتل أمير المؤمنين(عليه السلام) في مسجده وهو خارج لتهجده في ليلة يرجى فيها مصادفة ليلة القدر فقتله، فالله هو من قتيل وأكرم به وبمقتله وروحه من روحي عرجت إلى الله عز وجل بالبِرّ والتقى والإيمان والاحسان لقد أطفأ منه نور الله في أرضه لا تتبين بعده، وهدم ركناً من أركان الله عزّ وجلّ لا يشاد مثله فإنا لله وإنا إليه راجعون وعند الله نحتسب مصيبتنا بأمير المؤمنين (عليه السلام) ورحمه الله يوم ولد ويوم قتل ويوم يبعث حيا، ثم بكى حتى اختلفت أضلاعه ثم قال: وقد وصى بعده بالإمامة إلى ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وابنه وسليله وشبيهه في خلقه وهديه وإني لأرجو أن يجبر الله به ما وهى ويسد ما انثلم ويجمع به الشمل ويطفئ به نيران الفتنة فبايعوه ترشدوا، فبايعت الشيعة كلها)[3].
وروى المبرَّد قال: قال زياد لأبي الأسود الدؤلي لولا إنك قد كبرت لاستعنّا بك في بعض أمورنا، قال: إن كنت تريدني للصراع فليس عندي وان كنت تريد رأيي وعقلي فهما أوفر ما كانا.. وكان أبو الأسود حاضر الجواب جيد الكلام مليح البادرة.
روى عن الشعبي أنه قال: (قاتل الله أبا الأسود ما كان أعف أطرافه وأحضر جوابه، دخل على معاوية بالنخيلة فقال له معاوية: أكنت ذُكرت للحكومة؟ قال: نعم، قال: فما كنت صانعاً؟ قال: كنت أجمع ألفا من المهاجرين وأبنائهم وألفا من الأنصار وأبنائهم ثم أقول يا معشر من حضر أرجل من المهاجرين أحق أم رجل من الطلقاء، فلعنه معاوية وقال الحمد لله الذي كفاناك..)[4].
وروي أن أبا الأسود طلب بأن يكون في الحكومة وقال لأمير المؤمنين (عليه السلام)
في وقت الحكمين يا أمير المؤمنين (عليه السلام) لا ترض بأبي موسى فإني قد عجمت الرجل وبلوته فحلبت أشطره فوجدته قريب القعر مع أنه يمان وما أدري ما يبلغ نصحه، فابعثني فإنه لا يحل عقدة إلا عقدت له أشد منها وانهم قد رموك بحجر الأرض، فإن قيل إنه لا صحبة لي فاجعلني ثاني اثنين فليس صاحبهم إلا من تعرف وكان في الخلاف عليهم كالنجم، فأبى (عليه السلام).. )[5].
وروى محمد بن يزيد النحوي أن أبا الأسود كان شيعياً وكانوا يرمونه بالليل فإذا أصبح شكا ذلك، فشكاهم مرة، فقالوا: ما نحن نرميك ولكن الله يرميك، فقال: كذبتم لو كان الله يرميني ما أخطأني.. وقال لهم يوما: يا بني قشير ما في العرب أحبُ إليّ طول بقاء منكم، قالوا: ولم ذاك؟ قال: لأنكم إذا ركبتم أمراً علمتُ أنه غيٌّ فاجتنبه، وإذا اجتنبتم أمراً علمتُ أنه رشد فاتبعته، فنازعوه الكلام فأنشأ يقول:
يقول الأرذلون بنو قــشير طوال الدهر لا تنسى عليا
أحب محمدا حبا شـــديدا وعباساً وحمزة والوصيا
أحبــــهم لحب الله حـتى أجئ إذا بعثت على هويا
فإن يك حبهم رشدا أصبه ولست بمخطئ إن كان غيا
فقالوا له أشككت يا أبا الأسود؟ فقال ألم تسمعوا الله تعالى يقول: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) أفترون الله شك)[6].
وفاته:
توفّي الشاعر أبو الأسود الدؤلي (رحمه الله) عام (69) هـ بمدينة البصرة في العراق بـ (طاعون جارف)[7].
مجلة بيوت المتقين العدد (22)