(البَدَاء) في اللغة هو الظهور والإبانة بعد الخفاء.
قال الراغب الأصفهاني في كتابه مفردات القرآن: " بدا الشيء بدواً وبداءً : أي ظهر ظهورا بيّناً "، ومن الواضح أن الظهور إنما يكون بعد الخفاء ، ولو قيل " بدا لزيدٍ " فمعناه أنه علم بالشيء بعد الجهل به .
ولقد جاء ذكر البَدَاء بهذا المعنى في القرآن الكريم في مواضع منها:
1. قال الله سبحانه و تعالى في القرآن الكريم : ﴿ ... وَبَدَا لَهُم مِنَ الله مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ الزمر: 47 .
2. و قال سبحانه : ﴿ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ... ﴾ الأنعام: 28.
3. و قال تعالى أيضا : ﴿ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ﴾ الزمر: 48 .
و قد يطلق البَدَاء و يراد منه تغيير الإرادة و تبدّل العزم تبعا لتغيّر العلم ، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ يوسف: 35
و لقد اتفقت الشيعة الإمامية بأن البَدَاء بمعنى الظهور بعد الخفاء، و العلم بالشيء بعد الجهل به، و بمعنى تغيّر الإرادة و العزم يستحيل إطلاقُه على الله سبحانه و تعالى، ولم يقُلْ به أحد من الشيعة بتاتاً، لأنه كما هو واضح مستلزمٌ لحدوث علمه و تغيّره و تبدّل إرادته و عدم إحاطته بما كان و ما هو كائن و ما سيكون، و لا يُظن بمسلم عارفٍ بالكتاب و السنة و أحكام العقل أن يُطلِق البَدَاء بهذا المعنى على الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.
و لقد جاء في الحديث عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: (سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله(عليه السلام): هَلْ يَكُونُ الْيَوْمَ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ فِي عِلْمِ اللَّهِ بِالْأَمْسِ؟ قَالَ: لَا، مَنْ قَالَ هَذَا فَأَخْزَاهُ اللَّهُ، قُلْتُ: أَ رَأَيْتَ مَا هُوَ كَانَ وَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَ لَيْسَ فِي عِلْمِ الله؟ قَالَ: بَلَى، قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الله الْخَلْقَ)[1].
ونبيّن هذا المعنى فنقول: تارة يكون عند الإنسان رأي معين في مسألة ما ثم يغير رأيه بعدما تظهر له بعض المتعلقات التي كانت خافية عنه وكان لا يعلم بها، فيقال بدا لفلان كذا أي ظهر له رأي لم يكن يعلمه، وهذا البداء يحصل للإنسان، وهو بهذا المعنى يستحيل على الله تعالى؛ لأنه من الجهل والنقص، وذلك محال عليه تعالى، ولا تقول به الإمامية، قال الصادق عليه السلام : (مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَا لَهُ فِي شيء بَدَاءَ نَدَامَةٍ، فَهُوَ عِنْدَنَا كَافِرٌ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ)[2] وقال أيضا: ( من زعم أن الله بدا له في شئ ولم يعلمه أمس فأبرأ منه)[3].
غير أنه وردت عن أئمتنا الأطهار روايات توهم القول بصحة البداء بالمعنى المتقدم، لكنه بالتأمل يتضح بطلان ذلك وإن هذا البداء لا يسلب علمه وقدرته سبحانه، كما ورد عن الصادق (عليه السلام): (ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني)[4] فإن الناس في زمن الصادق (عليه السلام) ظهر لهم أن اسماعيل (وهو الإبن الأكبر للإمام الصادق (عليه السلام)) هو الإمام من بعده وليس الكاظم (عليه السلام) فأظهر الله لهم ما لم يكونوا يعلموه، وهو أن اسماعيل ليس بإمام، وذلك لأن الله توفاه قبل أبيه الصادق (عليه السلام). والله جل وعلا كان يعلم كل هذه التفاصيل فكان يعلم أن الناس سوف يتوهمون وأنه تعالى سوف يبطل توهمهم الخاطئ بموت اسماعيل قبل موعد الإمامة .
كذلك قصة النبي ابراهيم (عليه السلام)، عندما أمره الله بذبح ابنه اسماعيل (عليه السلام)، فإن الله تعالى يعلم أنه سوف يمتثل لأمره وسيفديه بذبح عظيم، ولكنهما لم يعلما ذلك فأظهر لهما الله تعالى أنه سيغيّر أمر الذبح من اسماعيل (عليه السلام) الى الكبش، لكن ذلك عن علم مسبق بكل هذه التفاصيل، وكما قلنا لا يمكن أن يكون تغيير الحكم بالذبح بمعنى أن الله غير الحكم ولا يعلم أنه سيتغير، لكنه عندما رأى الطاعة أراد أن يكافئ نبيه فغير الحكم لا عن جهل بالأمر لأن ذلك من الكفر العظيم .
ولعدم فهم هذا الموضوع من قبل بعض أتباع الفرق الأخرى نسبوا إلى الطائفة الإمامية القول بالبداء بمعنى الجهل لله تعالى طعناً في المذهب وطريق آل البيت (عليهم السلام)، وجعلوا ذلك من جملة التشنيعات على الشيعة .
والصحيح كما بيّنّا أنه تعالى قد يظهر شيئا على لسان نبيه أو وليه أو في ظاهر الحال لمصلحة تقتضي ذلك الإظهار ، ثم يمحوه فيكون غير ما قد ظهر أولا ، مع سبق علمه تعالى بذلك.