المؤمنون لا يشركون

قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ)[1].

لا يزال الكلام في صفات المؤمنين في سورة المؤمنين وقد تحدثنا في العدد السابق عن صفة الإيمان بآيات الله تعالى في ضلال قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) وفي هذا العدد نتحدث عن صفة أخرى للمؤمنين وهي أنهم لا يشركون بالله سبحانه حيث تأتي بعد مرحلة الإيمان بآيات الله مرحلة تنزيهه عن كل شبهة وشريك، فتقول الآية الشريفة: (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ)، ونفي الشرك جاء نتيجة للإيمان بآيات الله تعالى، وهو معلول الإيمان، أي أن الإيمان بالله يشير إلى صفاته تعالى الثبوتية، ونفي الشرك يشير إلى صفاته تعالى السلبية. وعلى كل حال فقد تضمنت هذه العبارة نفي أنواع الشرك، سواء كانت جلية أم خفية[2].

فالإيمان بآياته هو الذي دعاهم إلى نفي الشركاء في العبادة فإن الإيمان بها إيمان بالشريعة التي شرّعت عبادته تعالى والحجج التي دلت على توحّده في ربوبيته وإلوهيته.

على أن جميع الرسل والأنبياء (عليهم السلام) إنما جاؤوا من قِبَلِه وإرسال الرسل لهداية الناس إلى الحق الذي فيه سعادتهم من شؤون الربوبية، ولو كان له شريك لأرسل رسولاً، ومن لطيف كلام علي عليه أفضل السلام قوله: (لو كان لربك شريك لأتتك رسله)[3].

ملاك التوحيد والشرك:

ذهب بعض المتصوفة والدراويش في وصف أقطابهم وشيوخ طرقهم إلى حد الشرك، كما هو ظاهر، وبذلك هدموا حدود التوحيد والشرك وتجاوزوا معاييرهما حيث تفوح من أكثرها رائحة الشرك الجلي فضلاً عن الخفي ولا تنسجم مع أسس (التوحيد القرآني) بحال ولقد كانت نظرة هذه الفرقة إلى مفهوم الشرك نظرة خاصة وشاذة جداً، حيث راحت تعد الكثير من أنواع الشرك القطعي بأنه (عين التوحيد)!! وبذلك ضيّقوا (دائرة الشرك) أيما تضييق!!

في مقابل هذه الفرقة -تماماً- وقف الوهابيون، فهم توسعوا في فهم حقيقة الشرك وإطلاقه، توسعاً يكاد يشمل كل حركة وسكون وكل تصرف يصدر من أهل التوحيد تجاه أولياء الله بهدف الاحترام والتكريم حيث اعتبره الوهابيون عين الشرك، والحيدة عن جادة التوحيد!! وسمّوا فاعله مشركاً، حتى أن بعضهم يقول في تحديد الشرك: (إن كل تعلق بغير الله شرك).

والحق أنه لو كان معنى الشرك والتوحيد هو كما ما يراه الوهابيون ويقولون به، إذاً لما أمكن أن نمنح لأي أحد تحت هذه السماء وفوق هذه الأرض (هوية الموحد) ولما استحق أحد أن تطلق عليه تلك الصفة أبداً.

والحق أنه لو كان معنى الشرك هو هذا الذي يقولونه إذن ولا بد أن نعتبر كل البشر على هذه الأرض مشركين، بلا استثناء، حتى الوهابيين أنفسهم، لأنهم يتوصلون إلى تحقيق مآربهم وتنفيذ حاجاتهم عن طريق التعلّق والتوسّل بالأسباب مع أنه لا يمكن أن يقال إن الأسباب والعلل هي الله، بل هي غير الله، فينتج هذا أن يكون تعلقهم بالأسباب وتوسلهم بالعلل توسلا بغير الله، وتعلقا بسواه! في حين أن هذا النوع من التعليقات والتشبثات ليست لا تعد شركاً فقط بل هي (عين التوحيد وصميمه) لأن حياة الإنسان في هذه الدنيا مشدودة إلى الأسباب والعلل، غاية الأمر أن عليه أن لا يعتقد لهذه الأسباب والعلل أي استقلال وانقطاع عن الإرادة الإلهية العليا، بل لا بد أن يعتقد بتأثيرها تبعا لمشيئته سبحانه، نعم إن التعلق بالأسباب والعلل الظاهرية المادية قد يكون (عين التوحيد) من جهة، و(عين الشرك) من جهة أخرى، فعندما لا نعتقد بأي استقلال لهذه الأسباب -عند تشبثنا بها- ولا نعتبر تأثيرها في مصافّ الإرادة الإلهية وفي عرضها بل نعتقد بأنها تقع في ضمن السلسلة التي تنتهي -بالمآل- إلى الله تعالى، فلا نخرج عن إطار التوحيد، وليس في (الفكر التوحيدي) من مناص إلا الاعتقاد بمثل هذا الأمر وعلى هذا النمط.

أما عندما نرى لهذه الأسباب والعلل استقلالاً، ونعتقد بإمكان تأثيرها بمعزل عن الإرادة الإلهية، لا بنحو التبعية ففي هذه الصورة سنكون معتقدين بخالقين، ومؤثرين غير الله تعالى!!

إن على الموحد أن يحافظ على الاعتقاد بوجود قانون (العلية والسببية) الحاكم في الظواهر الطبيعية، وإن هذه الأسباب والعلل لا تملك استقلالاً في تأثيرها مطلقاً بل هي مفتقرة إلى الله في تأثيرها كما في وجودها وبقائها.

إن الموحد رغم أنه يعرف هذه الحياة ويتعامل معها على أساس الاعتقاد بوجود قانون (العلية والسببية) الحاكم في الظواهر الطبيعية إلا أنه يعتقد أن هذه الأسباب والعلل لا تملك استقلالاً في تأثيرها مطلقاً بل هي مفتقرة إلى الله تعالى في وجودها وبقاءها وتأثيرها.

فالسبب الأول هو الله سبحانه، وأما الأسباب الأخرى فهي مخلوقة له خاضعة لإرادته واقعة في طول مشيئته لا في عرضها.

إن هذا هو الفارق الأساسي بين الموحد والمادي، فالثاني يعتقد ب‍أصالة العلل المادية واستقلالها في التأثير في حين يسندها الموحد إلى الله خالق كل شيء، مع أنه يعترف بقانون العلية الحاكم في هذا الكون.

التوسل بالأسباب غير الطبيعية:

إلى هنا تبين أن النظرة إلى الأسباب الطبيعية بلحاظ أنها علل غير مستقلة عين التوحيد، وبلحاظ استقلالها في التأثير عين الشرك، وأما غير الطبيعية من العلل فحكمها حكم الطبيعية، حيث إن التوسل على النحو الأول عين التوحيد وعلى النحو الثاني عين الشرك حرفا بحرف، غير أن الوهابيين جعلوا التوسل بغير الطبيعية من العلل توسلاً ممزوجاً بالشرك.

ولكن هذا الاعتقاد باطل لأن الإنسان إذا اعتقد بأن لبرئه من المرض مثلاً طريقين أحدهما طبيعي والآخر غير طبيعي، وقد سلك الطريق الأول ولم يصل إلى مقصوده فعاد يتوسل إلى مطلوبه بالتمسك بالطريق الثاني كمسح المسيح (عليه السلام) يديه عليه، فلا يعد اعتقاده هذا وطلبه منه شركاً فإنه لا ينافي التوحيد ولا يضاده بل يلائمه كمال الملائمة فإنه يعتقد بأن الله الذي منح الأثر للأدوية الطبيعية أو جعل الشفاء في العسل هو الذي منح المسيح قدرة يمكنه أن يبرئ المرضى بإذنه سبحانه، ومعه كيف يعد اعتقاده هذا شركا؟! فإنه لا يعتقد باستقلال شيء منها في التأثير من دون أن يكون مستنداً إلى خالقه وبارئه، ولا فرق في ذلك بين التوسل بالأسباب الطبيعية وغيرها فإن نسبتها إلى الله سبحانه في كون التأثير بإذنه سواسية، إذ أي فرق بين الاعتقاد بأن الله وهب الإشراق للشمس والإحراق للنار وجعل الشفاء في العسل، وبين إقداره وليّه مثل المسيح وغيره على البرء، أو إعطاءه للأرواح المقدسة من أوليائه قدرة على التصرف في الكون وإغاثة الملهوف.

إن التوسل بالأرواح المقدسة والاستمداد بالنفوس الطاهرة الخالدة عند ربها نوع من التمسك بالأسباب في اعتقاد المتمسك وقد قال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة)[4] وليست الوسيلة منحصرة في العمل بالفرائض والتجنب عن المحرمات بل هي أوسع من ذلك فتوسل ولد يعقوب (عليه السلام) بأبيهم كان ابتغاء للوسيلة أيضاً.

هل الحياة والموت يدخلان في مفهومي التوحيد والشرك؟

إن استمداد الإنسان بالإنسان الآخر أمر واقع في الحياة البشرية، وجائز عند جميع الأمم والقرآن حافل بنماذج كثيرة من استمداد البشر بمثله إذ يقول: (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ)[5].

غير أن الوهابيين يقولون: إن التوسل بالأنبياء والأولياء جائز في حال حياتهم دون مماتهم.

إن الوهابيين يسلّمون أن الله سبحانه أمر العصاة بأن يذهبوا إلى النبي(صلى الله عليه وآله) ويطلبوا منه أن يستغفر لهم أخذا بظاهر قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً)[6]، كما يسلّمون أن أولاد يعقوب طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم كما في قوله تعالى:
(قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ)[7]، غير أنهم يقولون إن هذين الموردين إنما ينطبقان مع أصول التوحيد لأجل حياة المستغاث، وأما إذا سُئل ذلك في مماته عد شركاً.

ولكن الحق أنه لا دخالة لحياة المستغاث به ومماته في تحديد الشرك أو التوحيد مطلقاً، لأن ملاك التوحيد والشرك لم يفوض إلينا بل الميزان في الشرك هو الاعتقاد باستقلال الفاعل في ذاته وفعله والتوجّه به كذلك. كما أن الاعتقاد بعدم استقلاله في ذاته وصفاته وأفعاله يعد اعترافاً بعبوديته ويعد التوجه به تكريماً واحتراماً.

وعليه فلا تكون استغاثة شيعة موسى (عليه السلام) مطابقة للتوحيد إلا في صورة واحدة وهي: أن لا يعتقد معها باستقلال موسى في التأثير، بل يجعل قدرته، وتأثيره في طول القدرة الإلهية، ومستمدة منه تعالى

إن نفس هذه الحقيقة جارية في الاستمداد، والاستغاثة ب‍الأرواح المقدسة العالمة الشاعرة حسب أخبار القرآن وتأييد العلوم الحديثة[8].

مجلة بيوت المتقين العدد (11)

 


[1] سورة المؤمنون: 59.

[2] الأمثل10/470.

[3] الميزان 15: 40.

[4] المائدة: 35.

[5] القصص: 15.

[6] النساء: 64.

[7] يوسف: 97.

[8] التوحيد والشرك في القرآن للشيخ السبحاني ص135-146 بتصرف.