تحدثنا سابقاً عن صفة من صفات المؤمنين ألا وهي التواضع ونفي الكبر والغرور والتعالي يقول تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً)[1].
وقد وصفتهم الآية بوصفين من صفاتهم:
أحدهما: ما اشتمل عليه قوله: (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً) والهون على ما ذكره الراغب التذلل، والأشبه حينئذ أن يكون المشي على الأرض كناية عن عيشتهم بمخالطة الناس ومعاشرتهم فهم في أنفسهم متذللون لربهم ومتواضعون للناس، كما أنهم عباد الله غير مستكبرين على الله ولا مستعلين على غيرهم بغير حق، وأما التذلل لأعداء الله ابتغاء ما عندهم من العزة الوهمية فحاشاهم.
وإن كان الهون بمعنى الرفق واللين فالمراد أنهم يمشون من غير تكبر وتبختر.
وثانيهما: ما اشتمل عليه قوله: (وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) أي إذا خاطبهم الجاهلون خطاباً ناشئاً عن جهلهم، مما يكرهون أن يخاطبوا به أو يثقل عليهم - كما يستفاد من تعلق الفعل بالوصف - أجابوهم بما هو سالم من القول وقالوا لهم قولاً سلاماً خالياً عن اللغو والإثم، قال تعالى: (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاما)[2]، وعدم مقابلتهم الجهل بالجهل هو مظهر من مظاهر عظمتهم الروحية، ويرجع ذلك الى التحمل وسعة الصدر اللذين بدونهما سوف لا يطوي أي إنسان طريق العبودية لله، ذلك الطريق الصعب الممتلئ بالعقبات، خصوصاً في المجتمعات التي يكثر فيها الفاسدون والمفسدون والجهلة.
وهذه - كما قيل - صفة نهارهم إذا انتشروا في الناس وأما صفة ليلهم فهي التي تصفها الآية التالية: قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً)[3]، البيتوتة إدراك الليل سواء نام أم لا، و(لِرَبِّهِمْ) متعلق بقوله: (سُجَّداً) والسجود والقيام جمع ساجد وقائم على التوالي، والمراد عبادتهم له تعالى بالخرور على الأرض والقيام على السوق، ومن مصاديقه الصلاة.
والمعنى: وهم الذين يدركون الليل حال كونهم ساجدين فيه لربهم وقائمين يتراوحون سجوداً وقياماً، ويمكن أن يراد به التهجد بنوافل الليل[4].
وهذه الآية تناولت خاصيتهم الثالثة التي هي العبادة الخالصة لله، في عتمة الليل حيث أعين الغافلين نائمة، وحيث لا مجال للتظاهر والرياء، حرموا على أنفسهم لذة النوم، ونهضوا إلى ما هو ألذ من ذلك، حيث ذكر الله والقيام والسجود بين يدي عظمته عز وجل، فيقضون شطراً من الليل في مناجاة المحبوب، فينورون قلوبهم وأرواحهم بذكره وباسمه.
ورغم أن جملة (يَبِيتُونَ) دليل على أنهم يقضون الليل بالسجود والقيام إلى الصباح، لكنّ من المعلوم أن المقصود هو شطر كبير من الليل، وإن كان المقصود هو كل الليل فإن ذلك يكون في بعض الموارد.
كما أن تقديم (السجود) على (القيام) بسبب أهميته، وإن كان القيام مقدماً على السجود عملياً في حال الصلاة[5].
ولعل في الآية إشارة إلى أفضلية قيام الليل وأنه أرجح من قيام النهار وتؤكده وجوه:
الأول: إن عبادة الليل أستر عن العيون فتكون أبعد عن الرياء.
الثاني: إن الظلمة تمنع من الإبصار ونوم الخلق يمنع من السماع، فإذا صار القلب فارغاً عن الاشتغال بالأحوال الخارجية عاد إلى المطلوب الأصلي، وهو معرفة الله وخدمته.
الثالث: إن الليل وقت النوم فتركه يكون أشق فيكون الثواب أكثر.
الرابع: قوله تعالى: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً)[6]،[7].
فضيلة إحياء الليل بالعبادة:
عن جميل عن فضيل عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (أن البيوت التي يصلى فيها بالليل بتلاوة القرآن تضئ لأهل السماء كما تضئ نجوم السماء لأهل الأرض)[8].
عن معاوية بن عمار عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (عليكم بصلاة الليل فإنها سنة نبيكم ودأب الصالحين قبلكم ومطردة الداء عن أجسادكم)[9].
عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (شرف المؤمن قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس)[10].
وروى هشام بن سالم عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال في قول الله عز وجل: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً): (قيام الرجل عن فراشه يريد به وجه الله عز وجل، لا يريد به غيره)[11].
عن علي بن محمد النوفلي قال: سمعته يقول: (إن العبد ليقوم في الليل فيميل به النعاس يميناً وشمالاً وقد وقع ذقنه على صدره فيأمر الله تعالى أبواب السماء فتفتح ثم يقول للملائكة: انظروا إلى عبدي ما يصيبه في التقرب إلي بما لم أفترض عليه راجياً مني لثلاث خصال: ذنباً أغفره له، أو توبة أجددها له، أو رزقاً أزيده فيه، اشهدوا ملائكتي أني قد جمعتهن له)[12].
عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال حدثني أبي عن جدي عن آبائه عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: (قيام الليل مصحة للبدن ورضاء الرب وتمسك بأخلاق النبيين وتعرض لرحمة الله تعالى)[13].
عن محمد بن سليمان الديلمي، عن أبيه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (لا تدع قيام الليل فإن المغبون من غبن قيام الليل)[14].
من أراد قيام الليل:
عن عامر بن عبيد الله بن جذاعة، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (ما من أحد يقرأ آخر الكهف عند النوم إلا تيقظ في الساعة التي يريد)[15].
وعن السكوني، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): (من أراد شيئاً من قيام الليل وأخذ مضجعه فليقل: بسم الله اللهم لا تؤمني مكرك، ولا تنسني ذكرك، ولا تجعلني من الغافلين، أقوم ساعة كذا وكذا. إلا وكل الله عز وجل به ملكاً ينبهه تلك الساعة)[16].
قيام الليل في أقوال المعصومين (عليهم السلام):
إن قيام الليل من أهم صفات المؤمنين بل من أمهات الفضائل التي يتحلون بها، لذا فقد تكرر ذكرها في خطب ووصايا وأقوال المعصومين (عليهم السلام) التي كانوا يؤدبون شيعتهم بها، ليحثوهم على التخلق بهذه الصفات الكريمة ونحن نذكر هنا نصين وردا عن أبَوي هذه الأمة، وهما: النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام)، ليكون مسك الختام في هذا الموضوع، فقد بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) أهم أوصاف المؤمنين في وصيته لابن مسعود، حيث روي أنه قال:
(يا ابن مسعود إذا ابتلوا صبروا، وإذا أعطوا شكروا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا قالوا صدقوا، وإذا عاهدوا وفوا، وإذا أساؤوا استغفروا، وإذا أحسنوا استبشروا و((وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً))، و((وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً)). ((وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً)). ويقولون: ((لِلنَّاسِ حُسْناً)). يا ابن مسعود والذي بعثني بالحق إن هؤلاء هم الفائزون)[17].
وأما أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد وصف شيعته الذين اقتدوا بقائدهم وائتموا بإمامهم بهذا الكلام البليغ:
قال نوف البكالي: أقبل على أمير المؤمنين (عليه السلام) جندب بن زهير والربيع بن خثيم فقالا: (ما سمة شيعتكم وصفتهم يا أمير المؤمنين؟ فتثاقل عن جوابهما، وقال: اتقيا الله أيها الرجلان وأحسنا فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
فقال همام بن عبادة وكان عابداً مجتهداً: أسألك بالذي أكرمكم أهل البيت وخصكم وحباكم، وفضلكم تفضيلاً إلا أنبأتنا بصفة شيعتكم، فقال: لا تقسم فسأنبئكم جميعاً... فقال: ألا من سأل عن شيعة أهل البيت، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم في كتابه مع نبيه تطهيراً، فهم العارفون بالله، العاملون بأمر الله، أهل الفضائل والفواضل منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع، بخعوا لله تعالى بطاعته، وخضعوا له بعبادته، فمضوا غاضين أبصارهم عما حرم الله عليهم، واقفين أسماعهم على العلم بدينهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالذي نزلت منهم في الرخاء رضى عن الله بالقضاء، فلولا الآجال التي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقاً إلى لقاء الله والثواب، وخوفاً من العقاب عظم الخالق في أنفسهم، وصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن رآها فهم على أرائكها متكئون، وهم والنار كمن ادخلها فهم فيها يعذبون، قلوبهم محزونة وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة ومعونتهم في الإسلام عظيمة. صبروا أياماً قليلة فأعقبتهم راحة طويلة، وتجارة مربحة يسرها لهم رب كريم، أناس أكياس، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها، وطلبتهم فأعجزوها.
أما الليل فصافون أقدامهم، تالون لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلاً، يعظون أنفسهم بأمثاله، ويستشفون لدائهم بدوائه، تارة، وتارة مفترشون جباههم وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم، تجري دموعهم على خدودهم، يمجدون جباراً عظيماً ويجأرون إليه جل جلاله في فكاك رقابهم، هذا ليلهم فأما النهار فحلماء علماء بررة أتقياء، براهم خوف باريهم فهم أمثال القداح، يحسبهم الناظر إليهم مرضى وما بالقوم من مرض، أوقد خولطوا، وقد خالط القوم من عظمة ربهم، وشدة سلطانه أمر عظيم. طاشت له قلوبهم، وذهلت منه عقولهم، فإذا استقاموا من ذلك بادروا إلى الله تعالى بالأعمال الزاكية، لا يرضون له بالقليل، ولا يستكثرون له الجزيل، فهم لأنفسهم متهمون، ومن أعمالهم مشفقون، إن زكي أحدهم خاف مما يقولون، وقال: أنا أعلم بنفسي من غيري، وربي أعلم بي، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي مالا يعلمون، فإنك علام الغيوب، وساتر العيوب)[18].
هذا وينبغي التنبه إلى أن هذه الأوصاف قد ذكرت في نهج البلاغة بعنوان أوصاف المتقين والظاهر أنها نفس الحادثة رويت باختلاف في بعض ألفاظها فلاحظ.
مجلة بيوت المتقين العدد (16)
[1] سورة الفرقان: 63.
[2] الواقعة: 26-27.
[3] سورة الفرقان: 64.
[4] تفسير الميزان: ج15، ص239. بتصرف.
[5] تفسير الأمثل: ج11، ص306.
[6] سورة المزمل: 6.
[7] تفسير الرازي: ج26، ص250.
[8] ثواب الأعمال: ص42.
[9] ثواب الأعمال: ص41.
[10] الكافي: ج2، ص148.
[11] من لا يحضره الفقيه: ج1، ص471.
[12] وسائل الشيعة: ج8، ص151.
[13] ثواب الأعمال: ص41.
[14] معاني الأخبار ص342.
[15] الكافي: ج2، ص540.
[16] الكافي: ج2، ص٥٤٠.
[17] مكارم الأخلاق: ص446.
[18] بحار الأنوار: ج65.