يرجع معنى كلمة الذر إلى ثلاثة احتمالات:
الأول: أنه مأخوذٌ مِن (ذَر) على وزنِ (شَر)، ويطلق على صِغار النَّمْلِ، والهَباء الْمُنْتَشِر في الهَواءِ الذي يُرَى في شُعاعِ الشَّمْسِ الدَّاخِلِ مِنَ النَّافِذَةِ، كما يطلق على ما صغر ودقّ من المخلوقات، ومِنه مبدأ الإنسان من نطفةٍ صغيرةٍ جدّاً.
الثاني: أنَّهُ مأخوذٌ مِن مادّةِ (ذرو)، ومعناهُ النّثرُ والتّفريقُ، وإنَّمَا سُمِّيَ أبناءُ الإنسانِ بالذّريّةِ لأنّهم يتفرّقونَ فِي أنحاءِ الأرضِ بعدَ التّكاثرِ.
الثالث: هي مِن (ذرأَ) على زِنَةِ (زرعَ)، ومعناهُ الخَلقُ، فعلى هذا الوجهِ يكونُ معنى الذّريّةِ مُساوياً (للمَخلوقِ).
ومن هنا يمكن وصف عالم الذر مع أحد هذه الاحتمالات، وهو أمر ليس بالمهم، والأمر المهم هو ما هو عالم الذر؟ وما ينبغي الإيمان به بخصوصه؟
إن منشأ هذا المصطلح هو قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)[1].
فقد اختلف العلماء في تفسير هذه الآية على قولين:
القول الأول: حين خلق آدم ظهر أبناؤه على صورة الذر إلى آخر نسل له من البشر «وطبقا لبعض الروايات ظهر هذا الذر أو الذرات من طينة آدم نفسه»، وكان لهذا الذر عقل وشعور كاف للاستماع والخطاب والجواب، فخاطب الله سبحانه الذر قائلا الست بربكم؟!...
فأجاب الذر جميعاً: بلى شهدنا.
ثم عاد هذا الذر «أو هذه الذرات» جميعاً إلى صلب آدم «أو إلى طينته»، ومن هنا فقد سمي بهذا العالم بعالم الذر... وهذا العهد بعهد «ألست»؟ (الأمثل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: ج5، ص288)
ويؤيد هذا القول ما نقل في زيارة الإمام الحسين(عليه السلام) والتعبير عنه بالنور: (أشهد أنك كنتَ نورًا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة)، ومنه أيضاً ما ورد عن النبي(صلى الله عليه وآله): «كنا نورا بين يدي الله قبل خلق خلقه، فلما خلق الخلق سبحنا فسبحوا، وهللنا فهللوا، وكبرنا فكبروا، وذلك قوله عزوجل: (وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا)[2] الطريقة حب عليّ صلوات الله عليه، والماء الغدق ماء الفرات وهو ولاية آل محمد(صلى الله عليه وآله)»[3].
وكذلك ما ورد عن النبي(صلى الله عليه وآله): «يا سلمان خلقني الله من صفوة نوره، ودعاني فأطعت، وخلق من نوري علياً فدعاه فأطاعه، وخلق من نوري ونور عليّ فاطمة، فدعاها فأطاعته، وخلق مني ومن علي وفاطمة الحسن والحسين فدعاهما فأطاعاه»[4].
وغيرها روايات كثيرة في هذا المعنى.
القول الثاني: (إن المراد من هذا العالم وهذا العهد هو عالم الاستعداد «والكفاءات»، و«عهد الفطرة» والتكوين والخلق. فعند خروج أبناء آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام الأمهات، وهم نطف لا تعدو الذرات الصغار، وهبهم الله الاستعداد لتقبل الحقيقة التوحيدية، وأودع ذلك السر الإلهي في ذاتهم وفطرتهم بصورة إحساس داخلي... كما أودعه في عقولهم وأفكارهم بشكل حقيقة واعية بنفسها.
فبناء على هذا، فإن جميع أبناء البشر يحملون روح التوحيد، وما أخذه الله من عهد منهم أو سؤاله إياهم: ألست بربكم؟ كان بلسان التكوين والخلق، وما أجابوه كان باللسان ذاته)[5].
الإيمان بعالم الذر ليس من أصول الاعتقاد
بناءً على ما تقدم فإن عدم الوقوف على تفاصيل ذلك العالم والإيمان به إجمالاً ليس من أصول العقائد، لا يضر الإيمان به أو عدمه، ولعل تعذر الوقوف على شيء واضح يعزوه القائلون به إلى عدم قدرة الإنسان على تذكر ما جراء عليه في ذلك العالم، فيكتفي بظاهر ما ورد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) ولا ضير في ذلك، كما أن من شكك في حدوثه بسبب لعدم كفاية الأدلّة عنده، أو بسبب وجود بعض الإيرادات عليه، فإنه لا يكون ملوماً في شيء من ذلك، ولا ضير عليه أيضاً.
مجلة ولاء الشباب العدد (62)