وفاة أم البنين (عليها السلام)

مُقَدِّمَةْ

لما كانت الحياة الدنيا مزرعة الآخرة والناس إنما يتنافسون فيها بقدر جهدهم وجهادهم، لذا ورد في الأثر عن النبي (صلى الله عليه وآله): (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، ومن الواضح أنه لا يختلف الحال في ذلك بين المرأة والرجل، هذا حال العمل الأخروي، وكذلك جرت سنة الله في الحياة الدنيا أن الله لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، فنجد النجاح حليف العاملين المجدين، ويورثهم ذكرا عطرا في الدنيا ومثوبة في الآخرة إن قصدوا به وجه الله تعالى، وعلى هذا الأساس يمكن للمرأة أن تتفوق على الرجل في ميادين المعرفة والعمل والتقوى والجهاد وغير ذلك، فتصل إلى ما يعجز الرجل عن الوصول إليه، ولذلك أمثلة كثيرة كمريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، والسيدة خديجة الكبرى، والصديقة فاطمة الزهراء (عليهن السلام)، ومن هذه النساء أيضا السيدة الجليلة أم البنين (عليها السلام)، حيث يظهر ذلك جليّا من خلال مواقفها العظيمة مع أهل البيت (عليهم السلام)، وسيرتها العطرة التي تستحق أن تُكتب بماء الذهب وتُرصّع باللؤلؤ والمرجان، لتكون دستوراً تسير عليه النساء والرجال على حدٍ سواء، وليس ذلك إلا لأنها تاجرت مع الله تعالى في الحياة ففازت برضوانه وقربه، ومحبة أوليائه الطاهرين محمد وآله (عليهم السلام) .

ولادتها:

كانت ولادتها - على الأرجح - في السنة الخامسة للهجرة الشريفة.

نسبها الشريف:

هي فاطمة بنت حزام، وكنيته (أبو المحل)، ابن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب، وأمها ثُمامة بنت سهل بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب، فهي ترجع بنسبها من جهة الأب والأم إلى بني كلاب، وهم من قبائل العرب الأقحاح من بني عامر بن صعصعة، الشهيرة بالشجاعة والفروسية.

هذه المرأة الصالحة، كريمة قومها، وعقيلة أسرتها، فهي تنتمي لأشرف القبائل العربية، وأجمعهم للمآثر الكريمة، فأهلها من سادات العرب وأشرافها وزعمائها، وهم أبطال مشهورون، فمنهم: عامر بن الطفيل، الذي ضمّ إلى جانب الكرم والسخاء النجدةَ والفروسية، ومنهم: أبو براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب، جدّ تهامة والدة أم البنين، وهو الجدّ الثاني لأم البنين، وكان يقال له: (ملاعب الأسنّة) لفروسيته وشجاعته، فقومها ورهطها من الأعمام والأخوال يتمتّعون بكلّ خصلة فاضلة جليلة، وقد حباها الله كذلك مجداً وشرفاً لاحقاً جاءها بعد زواجها من أسد الله وأسد رسوله الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فكانت بذلك أفضل امرأة -ـ من غير البيت النبوي الشريف - تحوز على الشرف والمجد والرفعة من كلّ جانب.

كانت أم البنين من النساء الفاضلات، العارفات بحقّ أهل البيت (عليهم السلام)، مخلصة في ولائهم، ممحضة في مودّتهم، ولها عندهم الجاه الوجيه، والمحل الرفيع، بعد تضحياتها الجسام في واقعة كربلاء، وخدمتها المخلصة لأمير المؤمنين (عليه السلام) في رعاية أبنائه الكرام، بعد وفاة أمهم فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وقد كان زواجها من أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بعد السنة الرابعة والعشرين من الهجرة الشريفة، بعد أمامة بنت زينب ربيبة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).

رؤيا حزام:

كان حزام بن خالد بن ربيعة في سفر له مع جماعة من بني كلاب، وقد نام في ليلة من الليالي فرأى فيما يرى النائم كأنه جالس في أرض خصبة وقد انعزل في ناحية عن جماعته وبيده دُرة يُقلّبها وهو متعجب من حُسنها ورونقها وإذا يرى رجلاً قد أقبل إليه من صدر البريّة على فرس له فلما وصل إليه سلّم فرد (عليه السلام) ثم قال له الرجل بكم تبيع هذه الدُرة - وقد رآها في يده - فقال له حزام إني لم أعرف قيمتها حتى أقول لك ولكن أنت بكم تشتريها فقال له الرجل وأنا كذلك لا أعرف لها قيمة ولكن أهدها إلى أحد الأمراء وأنا الضامن لك بشيء هو أغلى من الدراهم والدنانير، قال ما هو؟ قال اضمن لك بالحظوة عنده والزلفى والشرف والسؤدد أبد الآبدين، قال حزام أتضمن لي بذلك؟ قال نعم، قال: وتكون أنت الواسطة في ذلك؟ قال وأكون أنا الواسطة أعطني إياها فأعطاه إياها.

فلما انتبه حزام من نومه قصَّ رؤيته على جماعته وطلب تأويلها فقال له أحدهم: إن صدقت رؤيتك فإنك تُرزق بنتا يخطبها منك أحد العظماء وتنال عنده بسببها القربى والشرف والسؤدد.

المولد المبارك:

فلما رجع من سفره، وكانت زوجته ثمامة بنت سهيل حاملا بفاطمة أم البنين، وصادف عند قدومه من السفر أن وضعت فبشروه بذلك فتهلّل وجهُه فرحاً وسُرّ بذلك، وقال في نفسه قد صدقت الرؤيا، فقيل له ما نُسمّيها؟ فقال لهم: سمّوها(فاطمة)، وكُنّيت فاطمة بنت حزام بأم البنين على كنية جدتها من قبل آباء الأم وهي: ليلى بنت عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.

اختيار وانتقاء:

روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لأخيه عقيل (عليه السلام) وكان نسَّابة عالماً بأنساب العرب وأخبارهم: (أنظر لي امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لي غلاماً فارساً) فقال له: (تزوّج أم البنين الكلابية فإنه ليس في العرب أشجع من آبائها) فتزوجها.

دخول أم البنين إلى بيت أمير المؤمنين (عليه السلام) :

عُرفت أم البنين (عليها السلام) بالوفاء للزهراء (عليها السلام) وعرفانها لمقامها العظيم، وكونها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وأنه لا يمكن أن يُقاس بها من هذه الأمة بل ولا من كل الأمم أحد.

ويتجلى هذا الأمر في قول أُم البنين (عليها السلام) للحسن والحسين وزينب (عليهم السلام)، ليلة زفافها من الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): (أنا ما جئت هنا لأحلّ محل أُمكما فاطمة، ثم اختنقت بعبرتها وقالت: أنا هُنا خادمة لكم، جئت لخدمتكم، فهل تقبلون بهذا وإلا فإني راجعة إلى داري)، فرحّب بها الحسن والحسين وزينب (عليهم السلام) وقالوا لها: (أنتِ عزيزة كريمة وهذا بيتكِ)، ولقد كانت تلقي إليهم من طيب الكلام ما يأخذ بمجامع القلوب، وما برحت على ذلك تحسن السيرة معهم، وتخضع لهم كالأمّ الحنون.

أولادها:

رزقت من أمير المؤمنين (عليه السلام) أربعة بنين: وهم العباس (أبو الفضل)، وعبد الله، وجعفر، وعثمان.. استشهدوا جميعاً تحت راية الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، وكانوا آخر من قتل، وآخرهم أفضلهم وهو أكبرهم أيضاً العباس (عليه السلام) حامل لواء أخيه الحسين (عليه السلام)، وساقي عطاشى كربلاء.

ما جاء في سمو شخصيتها:

تمتاز هذه المرأة النبيلة الصالحة، بالفضل والعفة، والصيانة والورع والأخلاق الفاضلة وهذا ما يتجلى بوضوح في المواقف التي تنقل عنها والتي منها:

لمّا دخلت بيت أمير المؤمنين (عليه السلام) كانت ترعى أولاد الزهراء (عليها السلام) أكثر ممّا ترعى أبناءها، وتُؤثرهم على أولادها؛ تعويضاً لما أصابهم من حزن، وفقدان حنان لموت أمّهم الزهراء البتول (عليها السلام) .

قالت يوماً إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) يا أبا الحسن: نادني بكنيتي المعروفة (أم البنين)، ولا تذكر اسمي (فاطمة)، فقال لها الإمام (عليه السلام): لماذا؟ قالت: أخشى أن يسمع الحسنان، فينكسر خاطرهما، ويتصدّع قلبهما لسماع ذكر اسم أمّهما (فاطمة)، فأيّ امرأة جليلة مؤمنة، صابرة صالحة وقور هذه المرأة طيّب الله ثراها، ونوّر ضريحها، لذا صار لها جاه عظيم، وشأن كريم عند الله، وعند رسوله، وأهل بيته الغرّ الميامين، فما توجّه إنسان إلى الله العلي العظيم وسأله بحقّها إلاّ قُضيت حاجته، ما لم تكن محرّمة، أو مخالفة للمشيئة الإلهية.

ومن باب عِرفان الجميل ومقابلة الإحسان بمثله فقد ورد: أن الزهراء (عليها السلام) تُخرِج يوم الحشر من تحت عباءتها كفين مقطوعين، وهما كفّا أبي الفضل العباس (عليه السلام) وتقول: يا عدل يا حكيم، احكم بيني وبين مَنْ قطع هذين الكفّين.

وأمّا ما ورد في شأن عبادتها وصلاتها، وتوجّهها إلى الله، وتفويض الأمر إليه، فهو شيء جليل مهمّ في سلوك هذه المرأة الحرّة الشريفة الكريمة، ذات الجذر الكريم الأصيل في شتى المكارم والفضائل والسجايا الطيّبة، لقد كانت أمّ البنين القدوة الحسنة، والمثل الأعلى الذي يُحتذى به، وكانت عنواناً للثبات والإخلاص، والبسالة والتضحية، والفداء والشرف، والعزّة والكرامة في سبيل الحقّ والعدالة، هذه السيّدة المصون ما إنْ بلغها مقتل الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء حتى خنقتها العبرة، فكانت تبكي بكاء الثكالى، صباح مساء، تعبيراً عن مشاعرها وأحزانها.

وثمّة شيء ينبغي أن يعرف، وهو أنه قد كان لسعة اطّلاعها في الأمور، وإخلاصها الكبير، وماضيها المجيد، أثر حاسم في تعلّق الناس بها، وثقتهم ومحبّتهم التي لا حدّ لها بشخصها، فاستطاعت بحكمتها وصبرها، وبُعد نظرها التغلب على كلّ الصعاب.

وهذا إنْ دلّ على شيء فإنّما يدلّ على حنكتها وجلدها، ومعدنها الأصيل ضمن إطار الأخلاق العربية، والتربية الإسلامية الأصيلة، وتقاليدها في التعامل مع الجمهور في احترامها لهم؛ لأنّ المرأة عظيمة المنزلة عند أمير المؤمنين (عليه السلام) في العلم والحلم، والمعارف والصلاح، عظيمة المنزلة عند الناس.

ويظهر للمتتبّع لأخبار أمّ البنين إنّها كانت مخلصة لأهل البيت (عليهم السلام)، متمسّكة بولايتهم، عارفة بشأنهم، مستبصرة بأمرهم.

بعد واقعة الطف ورجوع الآل إلى المدينة:

لما رجع ركب آل محمد (صلى الله عليه وآله) بعد واقعة الطف إلى المدينة المنورة تلقّت أم البنين الناعي بشر بن حذلم بعد وروده المدينة ينعى الحسين (عليه السلام) وأصحابه تسأله عن الحسين (عليه السلام) فتعجب من سؤالها فكيف تسأل عن الحسين (عليه السلام) وهو ينعاه لذلك سأل عنها، فقالوا له إنها أم البنين، فقال يحق لها أن تفعل ذلك وأخذ ينعى إليها أولادها الأربعة فقالت له: قطّعت نياط قلبي، أولادي ومن تحت الخضراء كلهم فداء لأبي عبد الله الحسين (عليه السلام).

ولما دخلت نساء أهل البيت (عليهم السلام) إلى المدينة بعد قتل الحسين (عليه السلام) والرجوع من السبي أقمن العزاء في بيتها، فلمّا دخلت السيّدة زينب (عليها السلام)، والتقت نظراتها بنظرات أمّ البنين صاحت: وا أخاه! وا عباساه! فأجابتها أمّ البنين: وا ولداه! واحسيناه!

ولم تكن أم البنين قد حضرت كربلاء لكنّ حزنها لم ينقطع على الحسين وإخوته (عليهم السلام) وكانت تذهب كل يوم إلى البقيع ترثيهم بتفجّع حتى إنّ مروان على قساوة قلبه كان يبكي لرثائها، وكانت تخاطب النساء اللاتي ينادينها أم البنين: (لا تدعونّي ويكِ أم البنين...)، ولم يخبُ أنينها حتى فارقت الدنيا بلوعة.

وفاتها رضوان الله عليها:

توفيت أم البنين في الثالث عشر من جمادى الآخرة، فسلام عليها حين ولدت، وحين توفيت، وحين تبعث شاكية باكية ما وقع عليها من الظلم.

زيارتها (رضوان الله عليها):

زيارة قبر السيدة أم البنين لها أجر وثواب عظيم، فإن زيارة قبور المؤمنين والمؤمنات لها أجر كبير، وقد ورد التأكيد عليها في الروايات الشريفة، فكيف بزيارة مثل قبرها (عليها السلام)، وإليكم نص الزيارة:

بسم الله الرحمن الرحيم

أشهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا الله وَحدَهُ لا شَرِيِكَ لهُ و أشهَدُ أنَّ محُمداً عَبدهُ ورَسوله، السلامُ عليكَ يا رسُولَ الله، السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليكِ يا فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، السلامُ على الحسنِ والحسين سيدي شبابِ أهل الجنة، السلام عليكِ يا أم البدور السواطع فاطمة بنت حِزام الكلابية المُلقبة بأم البنين وبابِ الحوائج، أُشهد الله ورسوله أنكِ جاهدتِ في سبيل الله إذ ضحيتِ بأولادكِ دُون الحُسين بن بنت رسول الله وعبدتِ الله مُخلصةً له الدين بِولائكِ للأئمةِ المَعصومِينَ وَصبرتِ على تِلكَ الرزِيةِ العَظيمةِ واحتَسبتِ ذَلِكَ عِندَ اللهِ رَبَّ العَالمِينَ وآزرتِ الإمام عَلياً فِي المِحَنِ وَالشَّدائِدِ وَالمَصَائِبِ وَكُنتِ فِي قِمةِ الطَّاعةِ وَالوَفاء وَأنكِ أحسنتِ الكَفالةَ وَأديتِ الأمانةَ الكُبرى في حِفظِ وَديعَتي الزهراءِ البَتولِ ((الحسنِ وَالحُسَينِ)) وَبالغتِ وَآثرتِ وَرَعيتِ حُجَجَ اللهِ الميامينَ وَرغَبتِ فِي صِلةِ أبناءِ رَسُولِ رَبََّ العَالمِينَ عَارِفةً بِحقهِم مُؤمِنةً بِصدقِهِم مُشفِقةً عَليهِم مُؤثَرةً هَواهُم وَحُبهُم على أولادكِ السُعداءِ فَسلامُ اللهِ عليكِ يَا سَيدَتي يَا أمَ البَنينَ مَا دَجَى اللَّيلُ وَغَسَقَ وَأضاءَ النَّهارُ وأّشرَقَ وسَقاكِ اللهِ مِن رَحيقٍ مختُوم يَومَ لاَ ينفَعُ مالٌ ولا بَنُونَ فَصِرتِ قِدوةً للِمؤمِناتِ الصَّالِحاتِ لأنكِ كَريمة الخَلائِقِ عَالمَة مُعَلمَة نَقيِة زَكية فَرضِي اللهُ عَنكِ وَأرضاكِ وَلَقَد أعطاكِ اللهُ مِنَ الكَرامَاتِ البَاهِراتِ حَتَّى أصبَحتِ بِطاعتِك للهِ ولِوصيَّ الأوصياء وَحبكِ لسيدةِ النساءِ ((الزهراء)) وَفِدائِكِ أَولادَكِ الأربعةِ لِسيدِ الشُهَدَاءِ بَابَاً لِلحَوائِجِ فَاشفَعِي لِي عِندَ اللهِ بِغُفرانِ ذُونُوبي وَكَشفِ ضََُرَّي وَقَضَاءِ حَوَائِجِي فإنَّ لَكِ عِندَ اللهِ شَأناً وَجَاهَاً مَحمُوداً وَالسَّلامُ عَلَى أولاَدِكِ الشُهَداءِ العَباس قَمَر بَني هَاشِم وَبَاب الحَوَائِجِ وَعَبد الله وَعُثمَان وَجَعفَر الذِينَ استُشهِدوا فِي نُصَرةِ الحُسَينِ بِكَربَلاء وَالسَّلامُ عَلى ابنتَكِ الدُرةِ الزَّاهِرَةِ الطَّاهِرَةِ الرَّضيَِّةِ خَدِيجَةَ فَجَزَاكِ اللهُ وَجَزَاهُمْ اللهُ ((جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهارُ خالدين فيها )) اَلَّلهُمَّ صَلَّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ.

 

لتحميل الملف اضغط هنا