قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، خَتَمَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[1].
الختم على القلوب:
في الآيات المذكورة وآيات أخرى عبّر القرآن عن عملية سلب حسِّ التشخيص والإدراك الواقعي للأفراد بالفعل (ختم)، وأحيانا بالفعل (طبع) و (ران).
في اللغة (ختم) الإناء بمعنى سدَّه بالطين أو غيره، وأصلها من وضع الختم على الكتب والأبواب كي لا تفتح، والختم اليوم مستعمل في الاستيثاق من الشيء، والمنع منه، كختم سندات الأملاك والرسائل السرية الهامة.
وهناك شواهد من التأريخ تدل على أن الملوك وأرباب السلطة كانوا سابقاً يختمون صرر الذهب بخاتمهم الخاص، ويبعثون بها إلى المنظورين؛ للاطمئنان على سلامة الصرر وعدم التلاعب في محتوياتها.
والشائع في هذا الزمان الختم على الطرود البريدية أيضاً، وقد استعمل القرآن كلمة الختم هنا للتعبير عن حال الأشخاص المعاندين الذين تراكمتْ الذنوب والآثام على قلوبهم، حتى منعتْ كلمة الحق من النفوذ إليها، وأمستْ كالختم لا سبيل إلى فتحه، وطبع بمعنى ختم أيضا.
أما ران فمن الرين وهو صدأ يعلو الشيء الجلي، واستعمل القرآن هذه الكلمة في حديثه عن قلوب الغارقين في أوحال الفساد والرذيلة: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[2].
المهم أن الإنسان ينبغي أن يكون حذرا لدى صدور الذنب منه، فيسارع إلى غسله بماء التوبة والعمل الصالح، كي لا يتحول إلى صفة ثابتة مختوم عليها في القلب.
في حديث عن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام): (ما من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنبا خرج في تلك النكتة نكتة سوداء، فإذا تاب ذهب ذلك السواد، فإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطّي البياض، فإذا غطي البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً، وهو قول الله عز وجل: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)[3].
القلب في القرآن:
ما المقصود من - القلب- في القرآن، ولماذا نُسب إدراكُ الحقائق في القرآن إلى القلب، بينما القلب ليس بمركز للإدراك بل مضخة لدفع الدم إلى البدن؟!
الجواب على ذلك: أن القلب في القرآن له معان متعددة منها:
1 - بمعنى العقل والإدراك، كقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)[4].
2 - بمعنى الروح والنفس، كقوله سبحانه: (وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ)[5].
3 - بمعنى مركز العواطف، كقوله تعالى: (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ)[6].
وقوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[7].
لمزيد من التوضيح نقول:
في وجود الإنسان مركزان قويان هما:
1 - مركز الإدراك، ويتكون من الدماغ وجهاز الأعصاب، لذلك نشعر أننا نستقبل المسائل الفكرية بدماغنا حيث يتم تحليلها وتفسيرها، (وإن كان الدماغ والأعصاب في الواقع وسيلة وآلة للروح).
2 - مركز العواطف، وهو عبارة عن هذا القلب الصنوبري الواقع في الجانب الأيسر من الصدر، والمسائل العاطفية أول ما تؤثّر على هذا المركز حيث تنقدح الشرارة الأولى.
فحينما نواجه مصيبة فإننا نحسّ بثقلها على هذا القلب الصنوبري، وحينما يغمرنا الفرح فإننا نحسّ بالسرور والانشراح في هذا المركز (لاحظ بدقة).
صحيح أن المركز الأصلي للإدراك والعواطف هو الروح والنفس الإنسانية، لكن المظاهر وردود الفعل الجسمية لها مختلفة، فردود فعل الفهم والإدراك تظهر أولا في جهاز الدماغ، بينما ردود فعل القضايا العاطفية كالحب والبغض والخوف والسكينة والفرح والهم تظهر في القلب بشكل واضح، ويحسّها الإنسان في هذا الموضوع من الجسم.
مما تقدم نفهم سبب ارتباط المسائل العاطفية في القرآن بالقلب (العضو الصنوبري المخصوص)، وارتباط المسائل العقلية بالقلب (أي العقل أو الدماغ).
أضف إلى ما تقدم أن عضو القلب له دور مهم في حياة الإنسان وبقائه، وتوقفه لحظة يؤدي إلى الموت، فماذا يمنع أن تنسب النشاطات الفكرية والعاطفية إليه؟!
سؤال: لماذا جاءت (قلوبهم) و(أبصارهم) بصيغة الجمع، و(سمعهم) بصيغة المفرد؟
يتكرر في القرآن استعمال القلب والبصر بصيغة الجمع: قلوب وأبصار، بينما يستعمل السمع دائما بصيغة المفرد، فما السر في ذلك؟
قبل الإجابة لابد من الإشارة إلى أن القرآن استعمل السمع والبصر بصيغة المفرد أيضا كقوله تعالى: (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً)[8].
الشيخ الطوسي (رحمه الله) في تفسير التبيان، ذكر نقلا عن لغوي معروف، أن سبب ذلك قد يعود إلى أحد أمرين:
أولاً: إن كلمة السمع قد تستعمل باعتبارها اسم جمع، ولا حاجة عندئذ إلى جمعها.
ثانياً: إن كلمة السمع لها معنى المصدر، والمصدر يدل على الكثير والقليل، فلا حاجة إلى جمعه.
ويمكننا أن نضيف إلى ما سبق تعليلا ذوقيا وعلميا هو أن الإدراكات القلبية والمشاهدات العينية تزيد بكثير على المسموعات ، ولذا جاءت القلوب والأبصار بصيغة الجمع، والفيزياء الحديثة تقول لنا إن الأمواج الصوتية المسموعة معدودة لا تتجاوز عشرات الآلاف، بينما أمواج النور والألوان المرئية تزيد على الملايين. (تأمل بدقة)[9].
مجلة بيوت المتقين العدد (52)