لُقّبت مدينة (إسطنبول) التركية بأنها مدينة المآذن، وعاصمة المساجد، لكثرة عدد المساجد التي تحتويها خصوصا المساجد التاريخية، والتي تبرز فن العمارة العثمانية في تصميمها - والتي مع الأسف يفوِّت الكثير من السياح فرصة زيارتها، و التعرف عليها - ومن بين هذه المساجد مسجد أيوب سلطان، ويسمّى أيضا: مسجد أبي أيوب الأنصاري، فهو مسجد عثماني قديم يروي قصة صحابي جليل توفي على أسوار اسطنبول، ويقع في منطقة «السلطان أيوب»، في الجانب الأوروبي من مدينة إسطنبول، بالقرب من القرن الذهبي، خارج أسوار القسطنطينية، حيث تعد منطقة «السلطان أيوب» من أهم الأماكن التاريخية بل والدينية لدى سكان إسطنبول.
ورغم أن المسجد لا يعد الأكبر في إسطنبول إلا أنه يعد الأهم لدى عامة الشعب التركي، ويستقطب الملايين من الزوار كل عام، فضلاً عن الأعداد الكبيرة التي تأمّه من السكان المحليين للصلاة فيه، ويعود السبب في اهتمام الشعب التركي بهذا المسجــد إلى احتوائه ضريح الصحابي الجليل «أبو أيوب الأنصاري» أحد صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولهذا يتوافد إليه الملايين، من الزوار كل عام، ليصطفوا ويشاهدوا ضريح أبي أيوب الأنصاري.
ورغم أن إسطنبول هي عاصمة المساجد بلا منازع، فإن عدداً كبيراً من المصلين يتدافعون إلى مسجد «أبو أيوب الأنصاري»؛ خصوصاً أيام الجمعة لأداء الصلاة.
بني المسجد بالقرب من قبر الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري (رضي الله عنه)، الذي كان يجاهد في صفوف جيش المسلمين عند محاولتهم الاولى لفتح القسطنطينية عام 52 للهجرة، ولكنهم لم ينجحوا في ذلك، وعندما توفي أبو أيوب الأنصاري، أوصى بأن يدفن في اسطنبول، وبالفعل تم غسله ودفنه في هذه المنطقة.
وفي الحملة الثانية لفتح (القسطنطينية) عسكر المسلمون في المنطقة التي فيها قبر الصحابي (أبو أيوب الأنصاري)، وفي صيف عام 1453م تمكن السلطان العثماني «محمد الثاني» - أو «محمد الفاتح» كما عرف لاحقاً- من فتح «القسطنطينية»، منهياً بذلك عصراً بيزنطياً استمر لأكثر من 11 قرناً، وكان العثور على قبر أبي أيوب الأنصاري من أول أعمال السلطان «محمد» بعد الفتح حيث طلب السلطان العثماني من رجاله أن يحدّدوا مكان دفن هذا الصحابي الجليل، وبعد أن عثروا على قبره طلب السلطان على الفور أن يتم بناء المسجد، وذلك في عام 1458م، وهو أول مسجد بناه العثمانيون في إسطنبول، بعد فتح القسطنطينية عام 1453م.
كما أمر بان تلحق بالمسجد أقسام عدة والتي كانت في زمنها مجمّعاً دينياً وتعليمياً واجتماعياً كبيراً، ويقول المؤرخون أنه كان يضم كلية جاءها طلابها من أماكن قريبة وبعيدة، ووفّرت لهم المأكل والمسكن والعلم، ويضم المسجد مطعما للفقراء، وحماما تركيا، وازدهر من حوله الاعمار، ونشطت التجارة.
وتتوسط الفناء الداخلي للمسجد وبشكل يحاذي المبنى الذي يحتضن الضريح، ساحة مستطيلة الشكل، محاطة بسياج حديدي، تمتد داخل الساحة شجرة عملاقة عتيقة، يقال أنها موجودة منذ وفاة أبي أيوب الأنصاري، وعلى كل زاوية من السياج، سلسبيل يشرب منه الزائرين، ويعتقدون أن هذه المياه مباركة، يقصدونها ليطلبوا من الله أن يحقق أمنياتهم.
في باحة المسجد، توجد عدة نوافير، تزينها نقوش إسلامية، وروحانية، وبالقرب منها تتوزع أماكن الوضوء للرجال.
(مكانة المسجد عند العثمانيين)
وبعد مجيء الدولة العثمانية، وفتح القسطنطينية، أحاط السلاطين هذا المقام بعناية خاصة؛ إذ كانوا يؤمنون بأنه مكان مبارك، فهو مرقد صحابي كبير، وأصبحت مكانة أبي أيوب الأنصاري عظيمة في الثقافة العثمانية، فقد اعتاد السلاطين العثمانيون، أن يقيموا حفلا رئيسيا في المسجد، ويتقلدون سيف السلطان الأول الذي فتح «القسطنطينية» رمزا للسلطة التي أفضت إليهم، فكان المسجد يستقبل مراسم تتويج السلاطين العثمانيين؛ حيث يدخلون ليتمّ تتويجهم كسلاطين وخلفاء في احتفال ديني، وينتظرهم سفراء الدول الغربية خارج باحة المسجد، باعتبار المسجد أرضاً مقدسة لا يجوز أن يدخلها غير المسلمين.
خلف المسجد تقع هضبة (بيير لوتيه) الشهيرة التي تعتبر مقبرة قديمة أيضاً؛ فمنذ فتح (القسطنطينية) بدأت كمقبرة للجنود المسلمين في محاولات الفتح المختلفة، وانتهت كمقبرة للوزراء والأدباء والقادة والكتّاب، وكانت الكثير من زوجات السلاطين، وبناتهم، وكبار وزرائهم، ومعلميهم، وجميع الشخصيات المهمة في البلاط كلهم كان يوصون بدفنهم في الحي نفسه الذي دفن فيه أبو أيوب الأنصاري، ولا تزال تعتبر مقبرة حتى الآن بالنسبة للأرستقراطيين الأتراك.
كان لأبي أيوب (رضي الله عنه) عند الترك خواصهم وعوامهم رتبة ولي الله الذي تهوي إليه القلوب المؤمنة وينظرون إليه كونه مضيّف رسول الله، فقد أكرمه وأعانه وقت العسرة كما أنه له مكانة مرموقة بين المجاهدين.
(أبو أيوب الأنصاري)
ذكر الشيخ الطوسي في رجاله إن أبا أيوب الأنصاري: من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأصحاب علي(عليه السلام) اسمه خالد بن زيد: مدني، عربي، خزرجي، يكنى أبا أيوب الأنصاري، من الخزرج.
وذكر البرقي في آخر رجاله أنه من الاثني عشر الذين أنكروا على أبي بكر، وكان آخر من تكلم، حيث قام فقال: اتقوا الله وردّوا الأمر إلى أهل بيت نبيكم، فقد سمعتم ما سمعنا: أن القائم مقام نبينا (صلى الله عليه وآله) بعده علي بن أبي طالب(عليه السلام)
وأنه لا يبلّغ عنه إلا هو ولا ينصح لامته غيره.
وروى الصدوق في عيون اخبار الرضا (عليه السلام): ج2، ص134 حديثا طويلا عن الرضا (عليه السلام) فيما كتب(عليه السلام) للمأمون في محض الاسلام وشرائع الدين وفي آخره: (...والذين مضوا على منهاج نبيهم، ولم يغيروا، ولم يبدلوا، مثل سلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر، وحذيفة اليماني، وأبي الهيثم بن التيهان، وسهل بن حنيف، وعبادة بن الصامت ، وأبي أيوب الأنصاري، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، وأبي سعيد الخدري). وهذا الحديث يدل على جلالة أبي أيوب وقوة إيمانه.
وقال الكشي حاكيا عن الفضل بن شاذان: أنه من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو ممن شهد بسماعه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خم قوله (صلى الله عليه وآله): (من كنت مولاه، فعلي مولاه)[1].
(منزل النبي (صلى الله عليه وآله) في المدينة)
عندما هاجر رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى المدينة خلّف عليا(عليه السلام) في أمور لم يكن يقوم بها أحد غيره وكان خروج رسول الله(صلى الله عليه وآله) من مكة في أول يوم من ربيع الأول سنة ثلاث عشرة من المبعث وقدم المدينة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول مع زوال الشمس فنزل بقُبا ينتظر عليا(عليه السلام) لما قدم عليه علي(عليه السلام) تحول من قُبا إلى بني سالم بن عوف وعلي(عليه السلام) معه يوم الجمعة مع طلوع الشمس فخطّ لهم مسجدا ونصب قبلته فصلى بهم فيه الجمعة ركعتين وخطب خطبتين ، ثم توجه في يومه إلى المدينة على ناقته التي كان قَدِم عليها وعلي(عليه السلام) معه لا يفارقه، يمشي بمشيه، ولا يمر ببطن من بطون الأنصار إلا قاموا إليه يسألونه أن ينزل عليهم، فيقول: خلوا سبيل الناقة، فإنها مأمــورة.
فانطلقت به، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) واضع لها زمامها، حتى انتهت إلى موضع مسجد النبي (صلى الله عليه وآله)، فوقفت هناك، وبركت، ووضعت جرانها على الأرض، وذلك بالقرب من باب أبي أيوب الأنصاري[2].
«ولم يكن في المدينة أفقر منه، فانطلقت قلوب الناس حسرة على مفارقة النبي(صلى الله عليه وآله) فنادى أبو أيوب: يا أماه أفتحي الباب فقد قَدِم سيد البشر وأكرم ربيعة ومضر، محمد المصطفى والرسول المجتبى، فخرجت وفتحت الباب وكانت عمياء فقالت: وا حسرتا! ليت كان لي عين أبصر بها إلى وجه سيدي رسول الله، فكان أول معجزة النبي (صلى الله عليه وآله) في المدينة أنه وضع كفه على وجه أم أبي أيوب، فانفتحت عيناها»[3] .
فأدخل أبو أيوب ـ أو أمه ـ الرحل إلى منزلهم، ونزل (صلى الله عليه وآله) عنده، وعلي (عليه السلام) معه، حتى بنى مسجده ومنازله[4].
وقيل مكث عند أبي أيوب شهراً واحداً، وقيل غير ذلك.
كان «أبو أيوب الأنصاري» مجاهداً في صفوف جيوش المسلمين، وقد شارك في حرب الروم وهو في الثمانين من عمره، ومرض هناك ومات (رحمه الله) قرب أنطاكية، وأوصاهم أن يحملوا جنازته داخل بلاد الروم ويدفنوه في أقرب نقطة ممكنة من القسطنطينية وكان له ما أراد[5].
المصدر: بيوت المتقين (31) شهر رجب 1437هـ