مسجد كأني أكلت

مسجد كأني أكلت

أغرب اسم لمسجد

فضل بناء المساجد

للمسجد دور مهم في حياة المسلمين وحضارتهم المنبثقة من الوحي، فهو مصدر إشعاع علمي، ومدرسة أخلاقية تربوية، ومكان عبادة، فلم يكن المسجد معبدًا أو مقرًّا للصلاة وحدها، بل كان شأنه شأن الإسلام نفسه متكاملاً في مختلف جوانب الدين والسياسة والاجتماع.

فالمسجد باختصار هو مركز الحياة الحقيقي لدى المسلمين وهذا ما شهد به الأعداء يقول الكاتب الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب): «المسجد مركز الحياة الحقيقي عند العرب». - ويقصد بالعرب المسلمين-

لذلك ورد الحث على بناء المساجد وعمارتها ماديا ومعنويا، فقد روي عن أبي عبيدة الحذاء، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (من بنى مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة)[1]، وقَوله: (فِي الْجَنَّةِ) فيه بشارة عظيمة لباني المسجد لله تعالى، وهي دخول الجنة، وفي قوله (مسجدًا) منكرًا فيه بشارة أخرى لمن لا يتمكن من بناء مسجد بالحجم المتعارف، فالتنكير فيه لِلشُّيُوعِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْكَبِير وَالصَّغِير.

ويؤيده ما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من بنى مسجدا ولو مَفْحَص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة)[2]. والقطاة: طائر في حجم الحمام له طوق يشبه الفاختة، و(مَفْحَص القطاة): موضعها التي تجثم فيه وتبيض كأنها تفحص عنه التراب، أي تكشفه، والفحص، البحث والكشف.

المهم أن يُخلص العمل، ويقدّم على قدر استطاعته، فالمجال مفتوح أمام الجميع، ولكن يتنبّه لقضية الإخلاص لله تعالى، فلا يبني المسجد رياء ولا مباهاة وفخرًا، وإلى هذا أشير في الحديث (مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا)، لأن قبول العمل متوقف على إخلاص صاحبه.

ولا يخفى أن بناء المساجد يعتبر من الصدقة الجارية التي يجري أجرها للعبد بعد ما ينقطع عمله بالموت، فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله): (سبعة أسباب يكتب للعبد ثوابها بعد وفاته: رجل غرس نخلا، أو حفر بئرا، أو أجرى نهرا، أو بنى مسجدا، أو كتب مصحفا، أو ورّث علما، أو خلّف ولدا صالحا يستغفر له بعد وفاته)[3].

وروي عنه (صلى الله عليه وآله) أيضا: (إن مما يَلحق المؤمنَ من عمله وحسناته بعد موته علما علّمَه ونشره، وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته)[4].

أغر باسم مسجد في العالم مسجد كأني أكلت

هل سمع أحد بمثل هذا الاسم الغريب؟

هو جامع صغير في منطقة «فاتح» في اسطنبول واسم الجامع باللغة التركية هو (صانكي يدم) أي:(كأني أكلت)، ووراء هذا الاسم الغريب قصة... وفيها عبرة كبيرة.

في كتابه الشيق (روائع من التاريخ العثماني) كتب الأستاذ الفاضل (أورخان محمد علي) .. قصة هذا الجامع.. فيقول أنه:كان يعيش في منطقة (فاتح) شخص ورع اسمه (خير الدين أفندي)، كان صاحبنا هذا عندما يمشي في السوق، وتتوق نفسه لشراء فاكهة، أو لحم، أو حلوى، يقول في نفسه: (صانكي يدم) .. يعني (كأني أكلت) أو (افترض أنني أكلت)!!... ثم يضع ثمن ذلك الطعام في صندوق له..... ومضت الأشهر والسنوات... وهو يكفّ نفسه عن لذائذ الأكل... ويكتفي بما يُقيم أوده فقط، وكانت النقود تزداد في صندوقه شيئا فشيئا، احتار الرجل ماذا يفعل بالمال، حتى قرر بناء مسجد صغير في محلّته، ولمّا كان أهل المحلة يعرفون قصة هذا الشخص الورع الفقير، وكيف استطاع أن يبني هذا المسجد، أطلقوا على الجامع اسم جامع: (صانكي يدم).

هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنه من الأشياء الصغيرة يمكن أن نصنع أشياء لها اعتبار كبير، رحمة الله على مؤسس هذا المسجد وجعله في ميزان حسنات.

كم من المال سنجمع للفقراء والمحتاجين، وكم من المشاريع سنشيد في مجتمعنا وفي العالم، وكم من فقير سنسد جوعه وحاجته، وكم من القصور سنشيد في منازلنا في الجنة إن شاء الله، وكم من الحرام والشبهات سنتجنب لو أننا اتبعنا منهج ذلك الفقير الورع، وقلنا كلما دعتنا أنفسنا لشهوة زائدة على حاجتنا (كأنني أكلت).

حكمة اقتصادية

ويحمل مسجد (كأني أكلت) حكمة عظيمة وهي الحث على التوفير الممكن وعدم التبذير والاقتصاد قدر المستطاع بكل المواد، خاصة أننا نعيش في مجتمعات استهلاكية كبيرة، وهذا المسجد يمثل درسًا ممتازًا لكل إنسان، الرجل في إدارة أعماله والمرأة في منزلها وحتى الشباب والأطفال، فقد نقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (ابن آدم إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك فأيسر ما فيها يكفيك، وإن كنت تريد ما لا يكفيك فإن كل ما فيها لا يكفيك)[5].

فالرجل الذي أسس هذا المسجد عانى الفقر والفاقة ولكنه امتلك تلك القدرة الجبارة على لجم النفس البشرية، فحرمها كل مشتهياتها بمساندة (كأني أكلت).. والمتوفر من أموال هذه الحياة المتقشفة استطاع أن يرفع به على مر سنوات جدران هذا المسجد.

وأصبحت عبارة (كأني أكلت) سلاحًا في يد الأمهات القلقات على أولادهن المبذرين من سكان منطقة الفاتح، لكن الطّامة أن هذه العبارة تسربت لعقول البخلاء الأشحّاء أيضاً، فصارت المثل الذهبي لهم!

ويقول أحد المصلين في مسجد (كأني أكلت): إن الذي قام ببناء المسجد كان عارفًا وحكيمًا عبقريا، وعلينا الاتعاظ به، ويقول مصلٍّ آخر حول حكمة مسجد (كأني أكلت): هو أمر في غاية الصعوبة مع وجود كل مغريات الحياة اليومية، لكن التلذذ بالأطعمة وإسكات الجوع وجهان لعملة واحدة، وهي الشبع، والأمر بحاجة إلى عزيمة قوية وبرنامج منظّم، ثم ننعم بالنتائج الرائعة، الصحية والمادية وغيرها.

وتبقي فلسفة مسجد (كأني أكلت) حلا في يومنا الحاضر للأزمة المالية العالمية، بالتركيز على أهمية التخطيط المالي والادخار وعدم التبذير، وينقل هذه الفلسفة المثل الشعبي الذي يقول: (خبيء قرشك الأبيض ليومك الأسود) و(كأنك أكلت حتى لو كنت جائعاً).

المصدر: بيوت المتقين (9) - شهر جمادى الثاني 1435هـ

 


[1]     الكافي ج3 ص368 ح1.

[2]     أمالي الطوسي ج1 ص186.

[3]     تنبيه الخواطر: ج2 ص110.

[4]     الترغيب والترهيب: ج1 ص99 ح24.

[5]     مجموعة ورام ص514.